توقيت القاهرة المحلي 14:28:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

شرخ داخلي

  مصر اليوم -

شرخ داخلي

أسامة غريب

أثناء الدراسة الجامعية كان لنا أستاذ يدرّسنا الشعر والتذوق الأدبى، وكان المدرج فى محاضرته يمتلئ عن آخره، حيث امتلك الرجل أدوات المحاضر المتمكن، وكانت له موهبة لافتة فى التدريس وتأليف قلوب الطلبة من حوله. لم أكن أختلف عن غيرى من حيث حبى لهذا الأستاذ وشغفى بحضور دروسه والاستماع إليه.

ذات محاضرة كان يتحدث إلينا عن أغراض الشعر العربى القديم، وعندما وصل إلى الحديث عن الرثاء أنشد لنا نماذج مؤثرة من الأشعار التى تعد من عيون الشعر العربى، ثم أخبرنا بأن الشاعر العربى القديم رثى أمه وأباه وأخته وأخاه وابنه وابنته لكنه لم يسمح لنفسه أبداً أن يرثى زوجته!. وأضاف أن العربى كان إذا ماتت زوجته أحل أخرى محلها على الفور قائلاً: بدّلتُ فرشى. سأله أحد الطلاب: هل هذا معقول.. أليس هناك من الشعراء العرب الجاحدين من رثا زوجة كان يحبها؟. نفى الأستاذ الأمر نفياً قاطعاً، وقال إنه يتحدى أن يعثر أحدنا على شىء من هذا!

كنت أعرف بسبب حبى للشعر أن رثاء الزوجات ليس أمراً متكرراً عند الشاعر العربى القديم، لكنى كنت أعرف أيضاً أن النفى القاطع الذى جزم به الأستاذ غير صحيح فرفعت يدى مستأذنا فى الكلام، فلما أذن لى الأستاذ قلت: إن هناك قصيدة رائعة قرأتها للشاعر جرير رثا فيها زوجته بأبيات من أنقى وأرق ما قيل فى الرثاء. وهنا تحول وجه الأستاذ إلى اللون الأحمر وبدا عليه أنه تفاجأ ثم سألنى فى تهكم: هل تريد أن تقول إنك تعرف أكثر منى فى هذا الأمر؟. أدهشنى الرد من الأستاذ ألذى أحبه وأحترمه وأشعرنى بالارتباك، لكن غُدّة التحدى التى تفرز فى مثل هذه الأحوال ساعدتنى على أن أقول له: عفواً أستاذى أنا لا أطاولك فى هذا الأمر وبالرغم من ذلك فإن الشاعر جرير قد قال فى رثاء زوجته:

لولا الحياء لهاجنى استعبارُ

ولزرت قبرك والحبيب يزار

ولّهت قلبى إذ علتنى كبرةٌ

وذوو التمائم من بنيك صغار

صلى الملائكة الذين تُخيروا

والطيبون عليك والأبرار

لا يلبث القرناءُ أن يتفرقوا

ليل يكر عليهمُ ونهار

ما كدت أنتهى من أبيات جرير حتى صاح الأستاذ وهو يرمى شرره تجاهى: طيب يا فالح.. اقعد. ثم أنهى المحاضرة فى عصبية وانصرف!

لم أفهم سر غضبه وعصبيته فأنا لم أغلط فى شىء.. هو الذى أخذته العزة بالإثم مع أنه لا يقلل من قدره خفاء هذا الأمر التافه عنه.. لكنها النفس البشرية العجيبة!

وقتها لم أكن قد قرأت بعد عن العلامة الأستاذ محمود شاكر وقصة خلافه الشهير مع الدكتور طه حسين عندما كان يدرس على يديه، وكانت له وقفة مع الدكتور طه، حيث كشف المواضع التى اقتبسها طه حسين من بعض المستشرقين ووضعها فى كتاب الشعر الجاهلى منسوبة لنفسه!. وعندها كان رد الدكتور طه لا يختلف عن رد أستاذى الذى يعلم الله أننى لم أقصد إحراجه أبداً، على العكس كنت أظنه سيسعد بى ويقربنى منه. لم يحتمل محمود شاكر الموقف فترك الجامعة إلى الأبد وهاجر إلى الحجاز لسنوات طويلة. أما أنا فلم أهاجر للخارج، لكنى هاجرت إلى داخل نفسى بعد أن أصبت بشرخ لم تفلح الأيام فى رأبه!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شرخ داخلي شرخ داخلي



GMT 09:03 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

شالوم ظريف والمصالحة

GMT 09:02 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

مسرح القيامة

GMT 09:01 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان... و«اليوم التالي»

GMT 09:00 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

لماذا توثيق «الصحوة» ضرورة وليس ترَفاً!؟

GMT 08:59 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 08:57 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الوجدان... ليست له قطع غيار

GMT 08:55 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

«فيروز».. عيونُنا إليكِ ترحلُ كلَّ يوم

GMT 08:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ذكرى شهداء الروضة!

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon