أسامة غريب
كل مهنة لها متاعبها، ورغم ذلك فإن معظم الناس يتصورون أن مهنتهم هم بالذات أكثر مشقة من غيرها. لو سألت ممثلاً مشهوراً لقال لك إنه لا يحب أن يمتهن ابنه مهنة التمثيل بعد ما لاقاه فى مشوار الفن، ولو سألت طبيباً كبيراً لحدثك عن سهر الليالى فى الدراسة والتعلم وصعوبة التعامل مع المرضى، لهذا يريد لابنه حياة أقل صعوبة. ولو سألت محامياً ذا صيت لاشتكى من السهر على القضايا وطبيعة المتقاضين والتعامل مع أرباب الجريمة.. وهكذا كل واحد من هؤلاء لديه قناعة أن ما يقوم به هو عمل مضن لا يتمناه لأولاده. والغريب أن معظمهم لا يجد تناقضاً بين قوله هذا وبين حقيقة أن ابنه قد امتهن مهنته!. كلهم يرونها مهناً شاقة ومع ذلك يورثونها لأبنائهم بدون جدارة فى معظم الأحوال وعلى حساب آخرين أكثر تفوقاً واستحقاقاً.. وفى أثناء ذلك لا يكفون عن التبرم وإعلان الغضب من المهنة المتعبة!
فى الحقيقة أن الناس لا تكذب عندما تتحدث عن متاعب مهنهم المختلفة، فالممثل طريقه ليس مفروشاً بالورود، لكن يدفع من جهازه العصبى ثمن شهرته، وقد يقوم بإعادة تمثيل المشهد الذى يراه المشاهد لمدة ثوان على الشاشة لثلاثة أيام متصلة. والطبيب الذى يريد النجاح يعيش تلميذاً طوال العمر حتى يحافظ على لياقته ويتعرف على الجديد فى دنيا الطب، وهو يتنقل من مستشفى لعيادة ويتعرض أحياناً للعدوى ويواجه فى كثير من الأحيان غضب أهالى المرضى الذين يموتون رغم علاجه أو بسبب علاجه!.. وضابط الشرطة لا تخلو حياته من الأخطار، وقد يعمل لساعات وأيام طويلة دون توقف، وكثيراً ما يتعرض لمواجهات مع الأشقياء قد تكلفه حياته. كل هذا صحيح، لكن أصحاب المهن سالفة الذكر وغيرها يخبئون جانباً من الصورة عندما يركزون على متاعب المهنة دون مزاياها وبريقها وفلوسها، لهذا لا نسمع منهم إلا أصوات الشكوى فى الوقت الذى يستميتون فيه لإلحاق أبنائهم بنفس المهنة التى يشكون منها!.. لا يحكى الممثل النجم عن الأموال الطائلة التى يجنيها ولا عن الشهرة والمعجبات والسفر والرحلات والجوائز، ولا يتحدث الطبيب عن ثمن الكشف الذى يتقاضاه عن خمس دقائق عمل والذى يزيد على مرتب بعض الموظفين فى شهر! ولا يقول الضابط عن رتبة الباشوية التى تجلب النفوذ والخدمات والتى حصل عليها من قبل أن يتخرج!
وقد يكون السبب فى هذا هو آفة المجتمع كله (الخوف من الحسد) الذى يجعل الناس تتوسع فى الحكى عن الفشل والمصائب والمشاكل والمنغصات وتختصر إلى أقصى حد عند الحديث عن السعادة والثراء والنجاح.
لهذا فإننى تعودت ألا أصدق هؤلاء وأتعامل مع حكيهم عن أنفسهم ومتاعبهم على أنه ثرثرة فارغة رغم أن بعضه حقيقى، لكنى قد أصدق عاملا بسيطا أو فلاحا أجيرا أو صنايعيا باليومية عندما يتحدث عن أمنياته فى أن يرى ابنه طبيباً أو ضابطاً أو أستاذاً جامعياً.. أصدقهم دون أن يضطر أى منهم لأن يحكى عن متاعب مهنته ومصاعب عالمه، ذلك أننى أراها بوضوح على الرغم من أنهم فى الغالب لا يشتكون ولا يملأون الدنيا صياحاً وندباً للحظ.. على العكس من السادة أولاد المحظوظة!