أسامة غريب
تعلقتُ بالسينما ووقعت فى هواها منذ بواكير الصبا ومنذ تفتحت العين والنفس على مباهج الحياة. لم أكن أكتفى بمشاهدة الأفلام التى ينقلها التليفزيون وتجتمع حولها الأسرة فى المساء لكنى أحببت الذهاب إلى دور العرض، حيث الشاشة الكبيرة والصوت المجسم والصالة المظلمة.
كنت أندهش ممن لا يدركون جمال المشاهدة فى دور العرض ويظنونها مماثلة للفرجة فى البيت، ورغم أن أحداً لم يشرح لى الفرق إلا أننى أدركته بالإحساس، ولقد كنت آخذ السينما بجدية فأفضّل الذهاب وحدى حتى لا يعطلنى رفيق عن المشاهدة بالثرثرة.
ومن حسن الحظ أن الأفكار المتعلقة بحرمة الفنون لم تكن موجودة فى ذلك الوقت فكان الناس يرتادون السينما والمسرح، ويتعاطون الباليه والموسيقى دون أن يطعن أحد فى دينهم أو سمعتهم!.
فى المنطقة التى كنت أسكنها كان يوجد أكثر من عشر دور عرض مما يسمى سينما الحى، وكان تصنيف دور العرض يتكون من ثلاث فئات أولاها دور الدرجة الأولى بوسط العاصمة والتى كانت تستخدم أيضاً كمسارح تقام عليها حفلات أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، وتليها دور الدرجة الثانية أو سينما الضواحى، وثالثتها سينما الدرجة الثالثة أو الترسو. لم أكن أذهب إلى سينما الدرجة الأولى لارتفاع ثمنها بالنسبة لميزانية تلميذ، كما لم أكن أحب سينما الترسو بجمهورها الغوغائى الذى يُحدث جلبة وضجيجاً ويقوم بتشجيع البطل كما لو كان بإزاء عرض مسرحى! وكانت سينما الترسو آنذاك تعرض معظم الوقت أفلام فريد شوقى الذى عُرف بملك الترسو. كنت زبوناً بدور عرض الدرجة الثانية التى تعرض فيلمين فى بروجرام واحد وكان جمهورها نظيفاً ويتشكل فى معظمه من العائلات التى تسكن الحى. لكن فى بعض الأحيان ونتيجة لتواضع الميزانية كنت أضطر لارتياد سينما الترسو، وكانت لى معها تجارب ليست لطيفة بالمرة.. كان الرواد فى الغالب من الصنايعية والمهمشين والبسطاء وفى بعض الأحيان من الخارجين على القانون ولهذا فكثيراً ما كانت عربة الشرطة تقف فى انتظار خروج الرواد لتقطف من بينهم باقة ترحل بها إلى التخشيبة.
وإلى جوارنا كانت توجد سينما سيئة السمعة اعتاد أن يقف ببابها الخلفى بوكس الشرطة يسد الباب بحيث يخرج الرواد فى الظلام ودون أن يدروا يجدون أنفسهم قد دخلوا البوكس مباشرة فيحملهم إلى قسم الشرطة وهناك يتم فرزهم ليأخذوا من بينهم النشالين والمطلوبين جنائياً ويطلقون سراح الباقين!.. هذه السينما المشبوهة قمت بدخولها مرة وفوجئت بأن عدد التذاكر المباعة أضعاف عدد مقاعد السينما، لذلك فقد كانت المشاهدة وقوفاً، والطريف أن دار العرض هذه كانت تقدم ثلاثة أفلام بالإضافة إلى مباراة فى كرة القدم.. ومن أراد أن يشاهد البروجرام كاملاً كان عليه أن يتحمل الوقوف لمدة ثمانى ساعات.. وقد أفرز هذا الوضع ما لا يمكن لرواد السينما فى العالم تصوره وهو أن تنطلق وسط الظلام صيحة من أحد الجلوس قائلاً: مين يشترى كرسى؟.. كان الزبون بعد أن يمل من المشاهدة ويقرر مغادرة السينما يعز عليه أن يترك مقعده لزبون آخر فكان يطرحه فى البورصة ويحصل فى مقابله على قرش أو نصف قرش من زبون عذّبه وحطم ركبتيه طول الوقوف!.
سقياً لذلك العهد الذى كنت فيه صغيراً وجميلاً و.. سعيداً.