أسامة غريب
فى بحث جمال عبدالناصر الدؤوب عن صحافة تعبر عن الحالة الجديدة بعد 1952 لم يكن يجهل أن الصحفيين جميعاً سوف يضعون أنفسهم فى خدمة النظام، لكنه رغم ذلك كان يبحث عمن يطمئن إلى ولائه ويتأكد فى الوقت نفسه من جدارته وكفاءته مهنياً وفكرياً. وكان ناصر يحتاج أحياناً إلى أحد الصحفيين الكبار ليعهد إليه بمهمة أو يستفسر منه عن معلومة يكون قد صادها أو خبر عرفه قبل غيره، لكن المشكلة أنه كان إذا طلب فلاناً قيل له إنه سافر العزبة يستجم، وإذا سأل عن علان وجده ساهراً عند إحدى الراقصات، وإذا احتاج إلى ترتان أخبروه بأنه يجلس مخموراً فى برتيتة قمار. هيكل كان الوحيد الذى إذا احتاجه عبدالناصر وجده صاحياً مستفيقاً لا سكراناً ولا مسطولاً ولا عاجزاً عن الوقوف على قدميه! فى ذلك الزمن كان لأساتذة الصحافة الكبار جلساتهم وسهراتهم وعلاقاتهم، وقد اشتهر الأستاذ محمد التابعى مثلاً بأنه كان دونجواناً لا يُشق له غبار فى دنيا النساء، كما أن مصطفى أمين كان صديقاً للفنانين والفنانات، ويشارك كذلك فى كتابة بعض الأفلام، أما الصحفى والشاعر كامل الشناوى فقد كانت لياليه ممتدة وحوله أحباؤه وأصدقاؤه ومريدوه. ببساطة أحس عبدالناصر بأن هيكل يشبهه.. يأخذ نفسه بجدية ولديه نفس الصرامة والعزم ولا ينغمس فى حياة اللهو والملذات، ومن هنا فقد نشأت العلاقة المعروفة بين الصحفى والرئيس بعد أن وجد كل منهما ضالته فى الآخر.. صحيح أن هيكل كان قد تحقق مهنياً بعض الشىء قبل لقائه بعبدالناصر عندما فاز بجائزة فاروق الأول للصحافة لثلاث سنوات متتالية، وصحيح أنه استمر بعد عبدالناصر ولم يخفت وهجه نتيجة بعده عن صانع القرار، إلا أن ثنائية هيكل/ ناصر ظلت لصيقة بالأذهان وموضع مقارنة بما أتى بعدها من ثنائيات على غرار السادات/ موسى صبرى، أو مبارك/ سمير رجب.
من الطبيعى أن هيكل- وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن- قد اكتسب صداقات كثيرة واكتسب عداءات أكثر، غير أن أى منصف لا يسعه سوى الاعتراف بالقدرات الفائقة لهذا الرجل الحاصل على دبلوم تجارة، والذى لم يعرف التعليم الجامعى، ومع ذلك فقد علّم نفسه واستفاد من كل الظروف التى ساعدته على أن يكون أهم صحفى عربى لعقود ممتدة. ولعل المكانة التى حققها قد ساعدته فى ولوج كل الأبواب والقرب من حكام العالم، لكنه مع ذلك ظل بعيداً عن الاشتباك المباشر فى هموم الوطن، وفضّل أن يقوم بدور المُحلِّل والمفسر والراوية دون أن نعرف رأيه الحقيقى فى معظم القضايا، وكانت له قدرة بارعة، لم تُتح لسواه، على تطويع اللغة ونحت التعبيرات وسك المصطلحات بصورة ساعدته على التملص الدائم من الانتساب لهذا الموقف أو ذاك، وربما لو أن الرجل قد ظهر فى ظروف مختلفة لكان أديباً كبيراً.
هيكل كان يعمل لصالح هيكل، وكان من الممكن أن نقول إن هذا ليس يعيبه، لولا أنه كان يعمل فى صناعة الوعى، فهل نستطيع اليوم- بعد أن وصل القطار إلى محطته الأخيرة- أن نزعم أنه أخلص فى مسألة صناعة الوعى هذه؟.. لا أعتقد.