مكرم محمد أحمد
تتمدد «داعش» خارج العراق وسوريا، ويقوى بأسها وتزداد خطورتها إلى حدٍّ يُهدد الأمن والسلم الدوليين، ورغم المنافسة التى لا تزال تواجهها «داعش» من تنظيم القاعدة، تظل «داعش» القوة الإرهابية الأشد خطراً، ليس فقط لقدراتها المالية الكبيرة، نتيجة سيطرتها على عدد من حقول البترول فى سوريا والعراق، تبيع إنتاجها إلى تركيا، وتدر دخلاً يتجاوز ثلاثة ملايين دولار فى اليوم الواحد، تمكنها من أن تشترى ولاءات معظم تنظيمات الإرهاب التى كانت تتبع «القاعدة»، وبينها «أنصار بيت المقدس وأنصار الشريعة»، ولكن لأن «داعش» تملك أيضاً تنظيماً منضبطاً، يقف على قمته أبوبكر البغدادى، الذى أعلن نفسه خليفة للمسلمين وأميراً للمؤمنين من فوق أكبر مسجد فى الموصل، أوامره نافذة على الجميع، وأحكامه قاطعة لا تُرد، يقطع رؤوس من يعصون له أمراً أو يتهاونون فى تنفيذ إشاراته، ويسيطر بالرعب على أربع محافظات عراقية وثلاث محافظات سورية، ويمد سطوته الآن إلى ليبيا، بعد أن فتحت له جماعة الإخوان المسلمين الأبواب على مصاريعها، وسلمته مفاتيح مدينة درنة الواقعة على مسافة 75 كيلومتراً من الحدود المصرية، كى تصبح منطلقاً لهجمات «داعش» ضد مصر!، وضد عدد من دول شمال أفريقيا، بينها الجزائر وتونس والنيجر ومالى.
وما يزيد من خطورة «داعش» إلى حد يجعلها أكبر خطر إرهابى يواجه العالم، قدرتها على جذب آلاف الشباب المسلم الذين يشكّلون الجيل الثانى والثالث لمهاجرين من أصول عربية وإسلامية استوطنوا عدداً من الدول الأوروبية، وعاشوا مهمّشين فى أحزمة الفقر التى تُحاصر عدداً من العواصم الأوروبية، بينها باريس، يشكلون تهديداً للأمن العام، لأنهم يعانون البطالة ويعيشون على الجريمة، وتناصبهم الشرطة العداء وتطاردهم فى كل مناسبة، وعندما كان الرئيس الفرنسى السابق ساركوزى وزيراً للداخلية قبل عشرة أعوام كان الصدام بين الشرطة الفرنسية، وهذه المجموعات يكاد يكون يومياً، وثمة ما يؤكد أن أكثر من ألف من هؤلاء الشباب الذين وُلدوا وعاشوا فى فرنسا حاربوا إلى جوار «داعش» فى سوريا والعراق، وتدرّبوا على كل أعمال القتل والتدمير، وأصبحوا هاجساً أمنياً للسلطات الفرنسية تخشى من عودتهم إلى فرنسا ليُصبحوا عنصر قلق وشغب يُهدد استقرار البلاد، يكررون ما فعله الأفغان العرب فى العالم العربى بعد عودتهم من أفغانستان التى تشكل علامة مهمة على التطور النوعى الذى حدث فى جرائم الإرهاب فى مصر والعالم العربى، بسبب التدريبات التى تلقوها فى معسكرات طالبان تحت إشراف المخابرات المركزية الأمريكية، التى ساعدت على تجنيد آلاف الشباب العرب وترحيلهم إلى أفغانستان، بدعوى مقاومة الاحتلال السوفيتى هناك!
وثمة ما يؤكد أن أكثر من 15 ألف شاب مسلم يعيشون فى دول المهجر، وينتمون إلى أكثر من 41 دولة، بينها معظم الدول الأوروبية، حاربوا إلى جوار «داعش» فى سوريا والعراق، وساعدتهم على ذلك سياسات الرئيس التركى رجب الطيب أردوغان الذى فتح حدود بلاده سداحاً مداحاً لهذه الآلاف، تعبر الأراضى التركية إلى سوريا، خاصة محافظة الرقة التى اختارها أبوبكر البغدادى مقراً لقيادة «داعش» ومركزاً للخلافة الإسلامية التى أعلنها، حيث يتولى تدريبهم هناك عدد من الضباط العراقيين الذين كانوا يعملون فى خدمة صدام حسين، فى إطار برنامج صارم يعلّمهم الغلظة والقسوة، تحكمه لوائح متشدّدة تدق عنق من يُضبط متلبساً بتدخين سيجارة!، وبفضل الرئيس التركى رجب الطيب أردوغان عبر الحدود التركية إلى سوريا والعراق، طبقاً لتقديرات غربية، آلاف من هؤلاء الشباب، جميعهم تلقوا تدريباً عسكرياً منضبطاً، ومع الأسف رفض الرئيس التركى إلحاح معظم الدول الأوروبية على ضرورة وقف عبور هذه الآلاف إلى سوريا، خوفاً من أن يكونوا عنصر قلق وعدم استقرار عندما يعودون إلى بلادهم، بمن فى ذلك رئيس الوزراء البريطانى الذى سافر إلى أنقرة على أمل أن ينجح فى إقناع «أردوغان» بغلق حدود بلاده فى وجه هؤلاء الشباب، لكنه عاد بخفى حنين!
وما من سبب يبرر مواقف الرئيس التركى وضلوعه المتآمر فى مساعدة «داعش» منذ البداية، وحرصه على إمدادها بكل صور العون وتسهيل وصول المقاتلين الأجانب إليها سوى وجود تخطيط مشترك يجمع «داعش» وتركيا، يستهدف هدم الدولة السورية والنفاذ إلى ليبيا، وتوسيع سطوة «داعش» ونفوذها فى العالم العربى بهدف إضعافه وتمزيقه، وثمة عشرات الأدلة على صحة تعاون «داعش» وتركيا، وضح أولها فى مساعدة «داعش» على احتلال مدينة الموصل ثانى مدن العراق، ورفض الرئيس التركى الاشتراك فى التحالف الدولى ضد «داعش» الذى دعا إليه الرئيس أوباما، ورفضه السماح للأكراد بالوصول إلى مدينة كوبانى لمساعدة القوات الكردية فى صد هجمات «داعش»، التى كانت قد استولت على معظم المدينة، ولولا مخاوف «أردوغان» من ثورة داخلية يقوم بها أكراد تركيا، احتجاجاً على مواقفه، لما رضخ «أردوغان» وسمح لبعض مقاتلى الأكراد بالوصول إلى مدينة كوبانى، والمساهمة فى الدفاع عنها وطرد معظم قوات «داعش» وتحرير 90% منها.
وما ينبغى أن يعرفه العالم أجمع أنه يواجه الآن أكبر منظمة إرهابية عرفها تاريخ البشرية، تملك السيطرة على أكثر من 15 ألف مقاتل يشكلون خلايا نائمة فى معظم الدول الأوروبية، يصعب حصار خطرهم، ما لم يتكاتف المجتمع الدولى، ويوحّد جهوده لاجتثاث جذور «داعش»، من خلال اتفاق صارم يصادق عليه مجلس الأمن، يتم تنفيذه تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، يُلزم كل الدول بعدم إعطاء «داعش» ملاذاً آمناً، والعمل على تجفيف منابعها المالية، وتُساءل الدول التى تخالف هذا الاتفاق أمام المحكمة الجنائية الدولية، ولن تنجح فى حصار أخطار «داعش» وتصفيتها المعايير المزدوجة، ومحاولات البعض استخدام «داعش» فزاعة ضد دول أخرى، ومن الضرورى أن تتصدّر الدول العربية والإسلامية هذا التحالف، لأن «داعش» ترتكب جرائمها المشينة باسم الإسلام، وتقبّح صورته فى العالم أجمع، وتكاد تجعل منه العدو الأول للأمن والاستقرار والحياة.
وأظن أن جريمة العدوان على مجلة «شارلى إيبدو» الساخرة فى قلب العاصمة الفرنسية واقتحامها من ثلاثة شباب من أصول جزائرية، أخوان فى الثلاثينات، وثالث لم يتجاوز 18 عاماً، وُلدوا جميعاً فى باريس وعاشوا فى أحيائها المهمّشة شرق المدينة، تمكّنوا من قتل 12 من أعضاء هيئة تحرير المجلة، بينهم رئيس التحرير، وثلاثة من كبار رسامى الكاريكاتير الفرنسيين أصغرهم فى السبعين من عمره، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، وجود خلايا نائمة تتبع تنظيمات الإرهاب فى معظم عواصم الدول الأوروبية، جاهزة للعمل الفورى، تملك قدرة التخطيط وجمع المعلومات وتنفيذ عمليات قتل خطيرة، صحيح أن من بين مرتكبى جريمة «إيبدو» من سافر إلى اليمن وتلقى تدريباً عسكرياً فى أحد تنظيمات «القاعدة» على يد العولقى الأمريكى من أصل يمنى، الذى كان يقود تنظيم القاعدة، ويخطط لإسقاط طائرة ركاب أمريكية فوق مدينة ديترويت من خلال استخدام أساليب أجهزة تفجير متطوّرة يصعب على أجهزة الرصد اكتشافها، لكن الصحيح أيضاً أن هذه المجموعة كانت تعمل بالتنسيق مع جماعة أخرى تنتمى إلى تنظيم داعش، تضم إرهابياً وزوجته نجحا فى احتجاز عدد من الرهائن فى محل لبيع الأغذية اليهودية، وترك الرجل بعد مقتله فيديو يمتد شريطه لـ7 دقائق عنوانه (جندى فى خدمة الخليفة)، يعلن فيه ولاءه لـ«داعش» وحرصه على التنسيق المشترك مع الجماعة التى ارتكبت جريمة «إيبدو».
ولأن «داعش» تملك تنظيماً هرمياً مترابطاً تتسلسل فيه القيادات، ابتداءً من القمة إلى القاعدة، تحكمه الطاعة لأمير المؤمنين، على حين تحول تنظيم القاعدة إلى مجرد مجموعات متناثرة ترتبط بفكر «القاعدة» دون روابط تنظيمية وتتصرّف وفق ظروفها المحلية، تصبح «داعش» الأكثر خطورة ونفاذاً مع امتلاكها لهذا العدد الضخم من الخلايا النائمة، قوامها يزيد على 15 ألف شاب حاربوا إلى جوار «داعش» فى العراق وسوريا، فضلاً عن عوامل النحر والتفتيت التى تأكل تنظيم القاعدة بعد رحيل «بن لادن» الذى ترك فراغاً لم يستطع أن يملأه أيمن الظواهرى، الذى يفتقد قدرة «بن لادن» على جمع قيادات «التنظيم» على قلب رجل واحد، ويزيد من خطورة «داعش» محاولاتها المستمرة اختراق مصر فى سيناء، بعد أن غيّر تنظيم أنصار بيت المقدس ولاءه القديم لـ«القاعدة» ليصبح جزءاً من «داعش»، وبعد محاولات تمدّدها فى ليبيا بعد أن فتحت لها جماعة الإخوان المسلمين مدينة درنة على مصاريعها، وأظن أن الدرس الأهم الذى ينبغى أن يتعلّمه العالم من أحداث فرنسا، أن الإرهاب واحد، مهما تعددت تنظيماته أو اختلفت عناوينه ومسمياته، لا فارق بين «النصرة» وجماعة الإخوان المسلمين و«أنصار بيت المقدس» و«أنصار الشريعة» و«القاعدة» و«داعش»، جميعها تشكل تحالفاً واحداً، هدفه الأول تقويض الأمن والاستقرار أينما يكونا، يحفزهم فكر ظلامى مغلق يتوهمون معه أنهم قادرون على السيطرة على العالم أجمع، وأنهم فى حالة حرب إلى يوم الدين مع كل الأديان ومع الغرب بأكمله، لا يعرفون التسامح والتواصل وتبادل المنافع بين شعوب العالم، فقط القتل والتدمير، وما لم تتكاتف دول العالم أجمع، فسوف يتضاعف خطر هذه الجماعات وأولاها «داعش»، وربما تجد البشرية نفسها أمام حرب دينية تأكل الأخضر واليابس!