مكرم محمد أحمد
تشكل عملية الإصلاح الاقتصادى التى تأخذ لأول مرة منذ أكثر من 50 عاماً منهجاً جاداً لمواجهة الأزمة الاقتصادية المعقدة، لا يكتفى بالمسكنات أو الحلول السطحية التى تؤجل المشكلة، أو تتركها إلى أن يتفاقم خطرها على هذا النحو البالغ تملقاً للشارع السياسى، أو خوفاً من أصحاب الصوت العالى، أو قلقاً من غضب شعبى واسع تحركه مطالب فئوية لا تنظر إلى أبعد من أقدامها!، لأنها تتوجه هذه المرة إلى أصل الداء وتسعى إلى اجتثاث جذوره، فى عملية جراحية شجاعة قد تكون عالية الكلفة بعض الشىء فى المنظور الزمنى القريب، لما سوف يترتب عليها من تضحيات وآلام يتحتم على كل فئات المجتمع أن تتحمل آثارها، كل وفق قدراته، لكنها فى النهاية مضمونة النتائج، سوف تؤدى فى غضون فترة زمنية محدودة إلى استرداد عافية الاقتصاد الوطنى، بحيث يستعيد قدرته على تحقيق معدلات تنمية عالية، تسهم فى تحسين جودة حياة المصريين خاصة الفئات الأقل قدرة، وتساعد على توليد فرص عمل جديدة تزيد على المليون فرصة لمواجهة مشكلة البطالة التى وصلت نسبتها إلى أكثر من 14%، معظمها لأجيال متتابعة من الخريجين الجدد لم يجدوا بعد فرصة عمل مناسبة، تساعدهم على تحقيق ذواتهم وبناء مستقبل أفضل.
ولأن أصل الداء يكمن فى تزايد حجم الدعم بنسب متصاعدة على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، خاصة دعم الطاقة والوقود الذى جاوزت قيمته 140 مليار جنيه، تستنزف ثلث الموازنة العامة التى يضيع ثلثها الآخر فى سداد الرواتب والأجور لبيروقراطية حكومية متضخمة قليلة الجدوى والإنتاج، وصل حجمها إلى 7 ملايين موظف، بمعدل موظف واحد لكل 12 مواطناً، الأمر الذى لا نظير له فى أى من دول العالم.. وبسبب الخلل الفاضح بين الموارد والإنفاق، واستمراء الحكومات المتتابعة الاعتماد على المعونات والقروض والمساعدات رغم كلفتها السياسية الباهظة، ارتفعت نسب التضخم وزادت أسعار جميع السلع فوق قدرات غالبية المواطنين، وأولها السلع الغذائية التى يتم استيراد 70% من مكوناتها الأساسية من الخارج، كما زادت نسب الفقر التى تجاوزت كثيراً الرقم الرسمى (24%) لتصل فى بعض التقديرات العلمية إلى حدود 40%، كذلك أثقلت الأعباء المتزايدة كاهل الطبقة الوسطى التى زاد من تمزقها أوجه إنفاق جديدة فوق حدود طاقتها (المحمول والوجبات السريعة)، فضلاً عن معاناتها المتزايدة من ضعف الأمن وزيادة البلطجة وغياب حكم القانون وشحوب دور الدولة فى الدفاع عن مقدراتها وأمنها الوطنى.
وبالطبع كانت النتيجة الحتمية سقوط نظامين للحكم فى ثورتين متتابعتين، بسبب شيوع الفساد وغلبة الطغيان وتدهور أوضاع المصريين على نحو مستمر، وإحساسهم المتزايد بفقدان الكرامة.. وجميع ذلك يشكل مخاطر ومحاذير تلزم الحكم الجديد ضرورة تغيير مناهجه وأفكاره ورؤاه، لأننا نواجه بالفعل وضعاً لا بديل له، يصعب بل يستحيل استمراره، يفرض علينا خياراً واحداً، إما أن نكون أو لا نكون، ويلزمنا جميعاً المواجهة الشجاعة لأصل الداء والتكاتف على اقتلاع جذوره، لأن البديل الوحيد هو إعلان فشل الدولة المصرية، لتصبح مصر وليمة سائغة على موائد اللئام، تخضع لوصاية وسلطة المؤسسات الدولية المالية.
وليس لنا أن نغضب أو نتمرد أو نثور لأن الغضب لن يحل أياً من مشاكلنا، ولأننا نعايش نتائج وآثار سياسات تراكمت على امتداد 5 عقود، يصعب أن يتحمل مسئوليتها نظام بعينه دون الآخر، وإذا كان لنا أن نغضب فإن علينا أن نغضب من أنفسنا، لأننا ننفق أكثر مما نكسب ونعيش فوق قدراتنا، ونتكلم بأكثر مما نعمل، ونؤثر فى الأعم الأغلب أن نضع رؤوسنا فى الرمال كالنعام بدلاً من مواجهة الحقيقة.. ولعل من حسن حظ المصريين أن تتم المجابهة مع أصل الداء إبان حكم جديد هم الذين اختاروه ومنحوه ثقتهم وحاربوا العالم من أجل مجيئه، لأن ثقتهم فى شخص الرئيس السيسى وصدق نياته ومقاصده وتجرده من أية دوافع خاصة، هى التى ساعدتهم على تجرع الدواء رغم مرارته والقبول بتضحيات جديدة رغم أوضاعهم الصعبة.. وما من شك فى أنهم جادون فى ضرورة أن يحظى الرئيس السيسى بفرصة واسعة تمكنه من إصلاح أوضاع مصر ووضعها على أول الطريق الصحيح، لكن ثمة شروط ضرورية ومهمة ينبغى أن يلتزم بها الحكم كى لا يستنزف شعبيته دون أن يتمكن من تحقيق أهدافه، وبرغم أن الجرعة الأولى من الدواء كانت قوية رفعت ثلث الدعم فإن مسيرة الإصلاح سوف تتطلب زمناً وصبراً لكن ثمار الإصلاح سوف تظهر تباعاً، لأن ما يتحقق من وفر فى دعم الطاقة (50 مليار جنيه هذه المرة) سوف يذهب لإصلاح جاد وملموس فى خدمات التعليم والصحة ومواجهة عجز الموازنة.
ولأن الجرعة الأولى كانت قوية وقعت أعباؤها على غالبية فئات المجتمع خاصة أصحاب الأجور والرواتب الثابتة، يتطلب الأمر نوعاً من إعادة النظر.. صحيح أن الدولة رفعت الدعم عن جميع المشروعات الصناعية كثيفة الاستخدام للطاقة، كما وضعت الحد الأعلى للأجور موضع التنفيذ، وفرضت شرائح جديدة من الضرائب على أصحاب الدخول العالية، لكن ثمة مصادر أخرى يمكن أن تحقق زيادة محسوسة فى موارد الدولة لا تؤثر بالسلب على الاستثمارات ولا تعطل قوانين السوق، تتمثل فى الأرباح المهولة التى نتجت عن مضاربات الأراضى وحققت للبعض أرباحاً مهولة توجب عليهم أن يدفعوا حق الدولة، وأظن أن المحاسبة الدقيقة للمكاسب المهولة التى تحصل عليها البعض فى قضية (الحزام الأخضر) وفى قضايا أخرى مماثلة تم فيها نهب أراضى الدولة، تكفى لتمويل إسكان الشباب أو لإصلاح التعليم وإن كانت قضية (الحزام الأخضر) قد حفظت لأسباب غير معروفة!.. لكن ثمة نسبة أخرى غير قليلة من ثروات بعض القادرين كان مصدرها الحصول على دعم غير مستحق أو المضاربة على الأراضى أو احتكار سلع إستراتيجية، وربما يحسن بهؤلاء أن يغسلوا أنفسهم وأيديهم ويطهروا أموالهم من خلال المشاركة الطوعية فى تبرعات جادة تستهدف تمويل مشروعات مهمة تعجز الخزانة العامة عن تمويلها.. صحيح أن التبرع وحده لا يساعد على نهوض الأمة، لكنه يؤكد حيوية الشعب وتكافل فئاته ويزيد من روابط وحدته الداخلية.
ويدخل ضمن الشروط المطلوبة أيضاً حصار الآثار الجانبية لزيادات الأسعار على فئات مهمشة كثيرة، يمكن أن تعانى الحرمان الكامل الذى يصل إلى حد الجوع، ولأننا لا نريد أن يتكرر مشهد أسراب الجوعى فى الشوارع ينقبون فى النفايات بحثاً عن شىء يسد رمقهم، يحسن بالحكومة والمجتمع المدنى أن يتعاونا معاً لمواجهة هذا الخطر، من خلال زيادة أنشطة بنوك الطعام، أو استمرار موائد الرحمن إلى ما بعد رمضان، أو صرف كوبونات غذاء للمحتاجين، خاصة أننا لن نعدم طوابير المخربين الذين سوف يحاولون استثمار هذه الظاهرة لإشاعة عدم الرضا فى أوساط المهمشين.
وبرغم تصاعد الانتقادات ضد الإجراءات الأخيرة فى دوائر بعينها تتربص لحكم الرئيس السيسى، ومحاولة البعض استثمار الظروف الراهنة لتحقيق مكاسب غير مشروعة على حساب غالبية الشعب سواء فى سوق النقل أو أسعار العديد من السلع، وتصور آخرين أن الحكم فى ظروفه الصعبة الراهنة يمكن أن يكون أطوع لضغوط جماعات عديدة من المنتفعين، يزداد قبول فئات المجتمع وشرائح الطبقة الوسطى للإجراءات الأخيرة ويزداد حماسها لمساندة الحكم فى موقفه الشجاع، بما يشير إلى أن عملية الإصلاح يمكن أن تحقق النجاح ويمكن أن تستمر وتتواصل، طالما يلمس ويشاهد الجميع آثارها ونتائجها بصورة محسوسة فى تحسين خدمات الصحة والتعليم، وضبط الأمن العام، واجتثاث جرائم التحرش والاختطاف والسطو المسلح التى زادت أخيراً وتطبيق حكم القانون على الجميع.. وما من شك أن ترميم بعض شقوق الجبهة الداخلية وحقنها ببعض الإصلاحات التى تزيد صلابتها سوف يكون مطلوباً خلال هذه المرحلة، مثل تضييق ثقوب الفساد أو محاولة سدها، والعفو عن الشباب فى إطار مصالحة مشروطة تلزمهم الحفاظ على هيبة الدولة واحترام القانون، والحفاظ على المؤسسات العامة والخاصة، والمحاسبة القاسية لكل من يخرب معهده العلمى، والأهم من ذلك كله الإسراع فى تنفيذ مشروع المليون مسكن ومشروع المليون فرصة عمل فى إطار يلتزم الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص.