لا نعرف بعد، متى على وجه التحديد يكتمل بناء سد النهضة وتنتهى مشكلاته ويتوافق المصريون والإثيوبيون على القواعد الدائمة لملء خزان سد النهضة وكيفية تشغيله بما لا يُضر مصالح دولتى المصب، مصر والسودان؟, وما هو حجم الأضرار التى يمكن أن تتحملها مصر باعتبارها دولة المصب الأكثر تضرراً ؟!، وهل صحيح أن نقص المياه التى تأتى إلى مصر يمكن أن يقترب من 10 مليارات متر مكعب، علماً بأن انتقاص 2% فقط من إيرادات نهر النيل يعنى خسارة مصر أكثر من مليار متر مكعب فى العام, وبوار 200 ألف فدان يعيش عليها ما يقرب من مليون نسمة!، وإلى متى تظل مصر فى وضع الترقب والانتظار تأمل فى صدور بيان توقعه مع إثيوبيا يؤكد حقها فى الحد الأدنى من حصتها المائية ويلتزم بعدم الإضرار بمصالح مصر المائية؟!، وإذا كان فى نيات إثيوبيا بناء المزيد من السدود على النيل الأزرق لتوليد المزيد من الكهرباء فكيف يتم صون حقوق مصر المائية رغم العقبات الكثيرة التى تشهدها عملية التفاوض الشاق مع الإثيوبيين؟! سواء على المسار الرسمى بعد أن قدم الاستشارى الفرنسى تقريره الاستهلالى عام 2017 الذى قبلته مصر ورفض السودان وإثيوبيا، أو على مسار التفاوض المباشر بين الفنيين بعد أن أكدت إثيوبيا أخيراً صعوبة الاتفاق الآن على قواعد مؤكدة طويلة المدى لملء خزان سد النهضة وتشغيله، لأن إثيوبيا لديها مشروعات أخرى بإقامة عدد من السدود على النيل الأزرق، ومن ثم فإن أى اتفاق حول الملء أو التشغيل سوف يكون بالضرورة اتفاقاً مؤقتاً!.
وأخيراً إذا كانت مصر تأمل فى تسوية عادلة لمشكلة سد النهضة تحافظ على الحد الأدنى لحقوق مصر المائية التى لا تتجاوز 55 مليار متر مكعب بينما يتزايد عدد سكانها على ما يفوق المائة مليون نسمة، فهل يكفى مصر اطمئناناً تصريحات قادة إثيوبيا، ابتداء من رئيس الوزراء الإثيوبى الأسبق مليس زناوى الذى أكد شفاهةً (أن نصيب مصر من المياه لن ينقص كوباً واحداً), إلى تصريحات رئيس الوزراء الجديد آبى أحمد الذى قال أخيراً (إن حصة مصر من مياه النيل لن تنقص وربما تزيد)، رغم أن جميع تصريحات القادة الإثيوبيين لا تثبتها وثيقة رسمية مدونة، لكن الإثيوبيين يعرفون جيداً أن القضية بالنسبة للمصريين قضية حياة أو موت لا تحتمل المزيد من المراوغة، لأن كل ما تتحصل عليه مصر من المياه 55 مليار متر مكعب تأتى من إيراد نهر النيل، يضاف إليها خمسة مليارات مصدرها الأمطار الشحيحة التى تسقط على مصر والمياه الجوفية التى تأتى من مصادر غير متجددة، ولولا جهود مصر فى تدوير مياه الصرف وإعادة استخدامها لكان الموقف أشد صعوبة وقسوة, وفى آخر تقرير لوزارة الرى المصرية يصل حجم الناتج من تدوير مياه الصرف إلى 20 ملياراً ومع ذلك تعانى مصر نقصا فادحا فى المياه يتجاوز 35 مليار متر مكعب.
والحق أن التفاوض مع إثيوبيا الذى بدأ عام 2013 يكاد يكون محلك سر لم يُثمر نتائجه المتوقعة, لأنه لم يكن منذ البداية صريحاً شفافاً من جانب إثيوبيا التى لجأت إلى المراوغة وعدم الشفافية وإخفاء المعلومات، وزاد من صعوبته تراكم تلال الشكوك بين البلدين وفقدان الثقة المتبادلة، وسيطرة الدولة العميقة فى إثيوبيا على مسار التفاوض وجاء رئيس الوزراء الجديد آبى أحمد ليختط لإثيوبيا سياسة جديدة تقوم على (صفر مشاكل) مع جيرانها الأفارقة، وحل نزاعها التاريخى مع إريتريا, وإبداء حسن النيات تجاه مصر والرغبة فى الوصول إلى تسوية عادلة لمشكلة سد النهضة، رغم الظروف المتعثرة التى تمر بها عملية بناء السد التى تواجه أخطاء ومخاطر جمة, إضافة إلى سوء الإدارة والتشغيل والفساد, وبقايا تأثير الدولة العميقة التى لاتزال قادرة على إثارة المشكلات والعقبات، ومع ذلك لا تزال ثقة مصر كبيرة فى شخصه رئيس الوزراء آبى أحمد الذى يثبت قدرة فائقة على الحسم مكنته من تخليص إثيوبيا من قيادة الجيش والأركان والمخابرات الذين يشكلون أساس الدولة العميقة, كما مكنته من تغيير قيادات شركة ميتيك التابعة للجيش الإثيوبى والتى كانت تتولى مسئولية تركيب توربينات السد وتشغيلها لكنها حققت فشلاً ذريعاً, ولم تتمكن من تشغيل توربين واحد على حين كانت إثيوبيا تخطط لتوليد 375 ميجاوات من أول توربينين يتم تشغيلهما عام 2015، وربما لهذا السبب أنهى رئيس الوزراء آبى أحمد عقد شركة ميتيك الحكومية التى كان المفترض أن تنجز عملها فى المشروع البالغ تكلفته 4 مليارات دولار فى غضون خمسة أعوام، إلا أن المشكلات العديدة التى تواجه مشروع سد النهضة والتى تحدث عنها كثيرا رئيس الوزراء آبى أحمد أجلت إتمام المشروع, وبعد 7 سنوات من العمل فى مشروع سد النهضة لم يتم تشغيل توربين واحد فى سد النهضة.
وحسب موقع إيزيجا الإثيوبى، أكد المدير التنفيذى لشركة الطاقة الكهربائية فى إثيوبيا أن ميتيك الشركة التابعة للجيش الإثيوبى تلقت أكثر من 16 مليار «بر إثيوبى» ـ عملة إثيوبيا ـ تم اختلاس نصفها من أصل 25 مليار بر تشكل الثمن المتفق عليه بينما لم تنجز سوى 30 فى المائة من الأعمال المسندة إليها! مشيراً إلى أن شركة سالينى الإيطالية المنفذة لمشروع سد النهضة تطالب بتعويضات قدرها 388 مليون يورو إضافة إلى 119 مليون دولار بسبب تأخر شركة ميتيك الحكومية فى إنجاز الأعمال المُسندة إليها، وفوق هذه التحديات يواجه سد النهضة تحديات كبيرة فى استكمال تمويل المشروع وإضراب عدد من العاملين فى المشروع مطالبين بتحسين أجورهم, إضافة إلى حادث انتحار مدير مشروع السد سنجاو بقلى فى نهاية يوليو الماضى, الذى استخدم سلاحه النارى الخاص فى عملية الانتحار وعُثر على بصمات أصابعه على السلاح الذى استخدمه فى عملية الانتحار التى يبدو دافعها فى الضغوط الشديدة التى تعرض لها مدير المشروع بسبب تأخير بناء السد الذى كان مفترضاً أن يتم قبل عامين، وارتفاع التكلفة الناتجة عن هذا التأخير. والواضح من هذه التطورات أن سد النهضة يتعثر ويواجه مشكلات فنية صعبة وصعوبات متزايدة فى عملية استكمال التمويل، فضلاً عن سوء الإدارة والتشغيل وكلها عوامل ربما تتسبب فى المزيد من التأخير، أدت إلى تأجيل عملية ملء خزان السد عاماً آخر، لكن السد صار حقيقة واقعة مهما تكن مشكلاته، ربما يتأخر بعض الوقت موعده النهائى لكنه سوف يكتمل وسوف يقام, خاصة أنه يشكل تحدياً أساسياً أمام رئيس الوزراء الجديد آبى أحمد يلزمه أن يكون السد على رأس أولوياته..، متى يتم ذلك وكيف يمكن التغلب على هذه المصاعب؟!، وهل تأخذ مصر موقف الانتظار وتعلق كل آمالها على تفاوض شاق لا نعرف على وجه التحديد متى ينتهى باتفاق صحيح مع إثيوبيا، أم أن الواقع الراهن فى مصر خاصة مع الزيادة المهولة فى أعداد السكان وثبات حصة مصر المائية من النيل تلزمنا بأن يكون لمصر رؤيتها الشاملة وخططها الخاصة التى تعتمد على جهود المصريين بصرف النظر عن التفاوض، مع الحفاظ على علاقات وطيدة مع إثيوبيا التى لا تزال تؤكد أن هدفها الأول من سد النهضة وأى مشروعات أخرى على النيل الأزرق هو الحصول على الكهرباء, وأن مصالح مصر المائية ينبغى ألا تُضار, آخذاً فى الإعتبار أن القضية بالنسبة لمصر قضية حياة أو موت وأن مصر غادرت تماماً مرحلة عابرة سادت فيها الفوضى الشاملة بعد ثورة يناير ودخلت على امتداد السنوات الاربع الماضية مرحلة إعادة بناء قوتها الشاملة الكفيلة بالحفاظ على كل حقوقها، وأظن أن ثقة مصر فى قدرة رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد الذى ينتمى لقبائل الأورومو، أكبر القبائل الإثيوبية والمالكة معظم أراضيها تمثل خياراً صحيحاً لمصر, لا يتعارض مع واجب اليقظة والحذر أو مع مسئوليات أنفسنا كمصريين يواجهون اختبارا صعبا. ومن المؤكد أن أول واجبات مصر تجاه نفسها أن تغادر موقف الانتظار لأن مشكلة سد النهضة ربما يطول التفاوض بشأنها ويتعذر الوصول إلى تسوية عاجلة للأزمة، خاصة مع الصعوبات الكبيرة التى تواجه عملية استكمال بناء سد النهضة وتشغيله، وأن تستمر فى إجراء تقشُف مائى صارم بدأته بالفعل قبل عامين، ويحقق تقدماً ضخماً فى الحد من استهلاك الوارد من مياه النيل، ويرفع إنتاجها من عمليات تدوير مياه الصرف، واستثمار مياهها الجوفية واستغلال كل نقطة مياه تسقط على أراضيها، كما تبدأ فوراً برنامجا ضخما لتحلية مياه البحر, لأن حصة مصر المائية من نهر النيل لم تعد فى حد ذاتها كافية لمصر التى يعيش على ضفافها الآن أكثر من مائة مليون نسمة بما أدى إلى هبوط نصيب الفرد من المياه إلى حدود الفقر المائى!.
وما يدعو إلى التفاؤل رغم هذه الحقائق الصعبة والمؤلمة أن المصريين يثبتون دائماً قدرتهم على قبول التحدى ويدركون على نحو متزايد أبعاد الأزمة المائية التى تفرض عليهم الحفاظ على كل نقطة مياه والالتزام بمعايير الترشيد وقبول الإجراءات الصارمة التى يتطلبها الترشيد، لأن مصادر مياه مصر تكاد تكون ثابتة لا تنمو بالتوازى مع أعداد سكانها، والواضح للعيان أن برنامج مصر فى التقشف المائى يحقق تقدماً مستمراً تعددت دلائله فى إجراءات محددة.
أولاها، نجاح مصر فى إقامة أكثر من 200 سد صغير فى سيناء والبحر الأحمر وصعيد مصر إضافة إلى عدد من الخزانات تستقبل مياه السيول, وتحقق الاستفادة القصوى من كل نقطة مياه تسقط على أرض مصر إضافة إلى مركز للإنذار المُبكر يساعد على معرفة حجم السيول المتوقعة وأماكنها، بما مكن مصر هذا العام من توفير مليار وربع المليار متر مكعب من مياه السيول تم استخدامها بكفاءة فى زراعات هذه المناطق وقللت من السحب من بحيرة السد العالى بمقدار حجم مياه هذه السيول، وثانيتها تقليل حجم الأراضى المزروعة أرزاً إلى 724 ألف فدان، بما وفر ثلاثة مليارات متر مكعب من المياه, زادت من مخزون المياه فى بحيرة السد العالى التى (ارتفع منسوبها إلى الحد الأقصى) وهذا خبر عظيم وجديد لأن مشيئة الرحمن جل فى علاه أتت بفيضانين فوق المتوسط رفعا حجم المخزون فى بحيرة السد إلى ما يقرب من منسوبها الأعلى، وزاد الحال يسراً أن إثيوبيا لم تكن قادرة على بدء ملء خزان سد النهضة هذا العام بما مكن بحيرة السد العالى التى تمكنت من استيعاب فائض أكبر بسبب مياه الفيضانين الأخيرين, وتتجاوز جملة ما وفرته مصر خلال عامين 8 مليارات متر مكعب .
وإذا كنا فى مصر الآن فى موضع المفاضلة بين مشروعين إستراتيجيين، أحدهما يقرب من حلم الخيال يقوم على بناء واد جديد على الأرض الصحراوية غرب النيل، يعتمد فى مياهه على رياح جديد يخرج من أمام بحيرة السد و يمضى شمالا بالتوازى غرباً مع نهر النيل, يُمكن مصر من زيادة رقعتها الزراعية بما يناسب حجم سكانها الضخم الجديد، بينما يركز المشروع الإستراتيجى الآخر على استعادة أرض الدلتا القديمة والوادى بإخلاء المصانع وبعض مراكز العمران من هذه الرقعة, ونقلها إلى الظهير الصحراوى غرب النيل، حفاظاً على أرض الدلتا والوادى وتربتها التى لا تزال أجود تربة فى العالم لقدرتها العالية على الاحتفاظ برطوبة الأرض بما يجعلها أكثر وفراً لمياه الرى، لا تحتاج إلى هذا الحجم الهائل من المياه التى تحتاجه أرض الصحراء الرملية، لأن فدان الأرض القديمة فى الدلتا أو الوادى لا يحتاج إلى أكثر من 4 آلاف متر مكعب من المياه بسبب الرطوبة المُختزنة فى الأرض القديمة، بينما يحتاج الفدان فى الأرض الصحراوية الجديدة إلى متوسطات مياه تربو على 11 ألف متر مكعب لكل فدان مع استخدام طرق الرى الحديثة بالرش أو التنقيط.
وما يجعل الخيار الثانى هو الأفضل والأكثر ضماناً للنجاح, البنية الأساسية للرى فى مصر التى تتمثل فى الرياحات والترع والمساقى والقناطر والكبارى الموجودة فى الدلتا والوادى على امتداد صعيد مصر، والتى يكاد يكون من المستحيل تعويضها أو إنشاء بنية أساسية جديدة فى الصحراء غرب النيل تتجاوز تكلفتها الآن طبقاً لتقارير الخبراء أكثر من تريليونى جنيه مصرى بما يجعل الحفاظ على البنية الأساسية القديمة واجباً مُقدساً، ومن المؤكد كما يقول وزير الرى الدكتور محمد عبد العاطى أن نقل المجموعات العمرانية والمصانع خارج الدلتا والوادى القديم، ووقف الامتداد الأفقى للقرى المصرية الذى أكل أخصب الاراضى اعتماداً على الامتداد الرأسى، وإعادة زراعة هذه المساحات الشاسعة من الأرض سوف يكون أكثر فائدة و اشد وفراً للمياه وأقل كلفة من زراعة الصحراء, وإقامة بنية أساسية جديدة للرى تتجاوز تكلفتها تريليونى جنيه!
وما ينبغى أن نخلص إليه بعد هذه المقارنة بين رؤيتين إستراتيجيتين للمستقبل تتصارعان فى كواليس الحكم فى مصر، أن البناء على الأرض الزراعية جريمة لا تُغتفر لا ينبغى التصالح معها, ولا يجوز ان تسقط بالتقادم، تلزمنا ضرورة تشديد العقوبات إلى حدها الأقصى حفاظاً على ما تبقى من أرض الدلتا والوادى، وأن تشمل العقوبات الصارمة كل من بنى ومن سّهل ومن تغافل ومن أغفل الرقابة, ومن علم ولم يبلغ، كما أن أى توسع عمرانى جديد فى الدلتا والوادى ينبغى أن يكون رأسياً وليس أفقياً, لأن ما يتآكل من الأرض القديمة يزيد على 50 ألف فدان فى العام, وأظن أنه تجاوز ذلك بكثير وربما يكون قد وصل إلى أضعاف هذا الرقم خلال الفوضى التى أعقبت ثورة يناير، كما أن نقل المصانع والتجمعات العمرانية من داخل الأرض القديمة وزراعتها من جديد بات ضرورة مهمة وأقل كلفة مـن إقامة وادٍ جديد, وخلاصة المطلوب أن تتحرك مصر قدما بصرف النظر عن مشكلات التفاوض مع إثيوبيا وأن تحرص على بناء قوتها الشاملة التى تحفظ لها حقوقها وأن تختار الافضل والاقل كلفة ووفرا للمياه فى مشروعتها الإستراتجية الجديدة.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع