أظن أن استقالة أمين عام المؤتمر الإسلامى إياد مدنى ــ التى ربما تمت تحت ضغوط مباشرة من دوائر سعودية عليا، ترفض تصعيد الازمة مع مصر وتحرص على التصحيح الفورى لخطأ بالغ صدر فى حق مصر وحق رئيسها عبدالفتاح السيسى ــ تطمئننا إلى أمرين مهمين، أولهما إن الإقالة او الاستقالة أكدت ما كانت تعرفه مصر على وجه اليقين من أن الأمين العام السابق للمؤتمر الإسلامى تحدث برايه مازحا على نحو ثقيل الظل, أو ساخرا بغير علم, لكنه لم يكن يعبر سوى عن نفسه!، وثانيهما أن الآمال لا تزال كبيرة فى تصحيح مسار العلاقات السعودية المصرية، وليس مجرد قطع الطريق على فرقاء عديدين لايريدون قصدا وعناية صالح البلدين أو صالح العرب!، ويعمون عن رؤية التحديات الضخمة المشتركة التى تواجه البلدين معا, كما تواجه كلا منهما على انفراد، فى ظروف عصيبة تفرض صدق الرؤية وحكمة الرأى وشفافية الموقف والارتفاع إلى مستوى التحدى، يصدق عليها القول المأثور (أُكلت يوم أُكل الثور الأحمر) لان الخطر الذى يبدو إنه يحاصر كل منها منفردا يستهدفهما معا بصرف النظر عن أيهما المستهدف اولا، وان كان المشهد الراهن يؤكد أن مصر هى المستهدفة أولا، كما تشير اتجاهات الريح إلى أن السعودية والخليج هما المستهدفتان تاليا!.
وإذا كانت فطنة الدوائر السعودية المسئولة إلى ضرورة اصلاح الخطأ الجسيم الذى وقع فى حق مصر وحق رئيسها تستحق الشكر، فإن واجب الصدق يلزمنا ان نؤكد أن هذا التصحيح لخطأ كان ينبغى تصحيحه، لايكفى ولايصلح بديلا عن تصحيح مسار العلاقات السعودية المصرية فى أسرع وقت، من خلال آليات تشاور واضحة تمكن الجانبين المصرى والسعودى من الجلوس معا لحوار صريح ومباشر، يحتاجه الإثنان فى هذا التوقيت الحيوى المهم لترميم شقوق صغيرة يحسن ترميهما سريعا قبل أن تصبح شروخا وصدوعا، تسمح لأعداء الأمة العربية بالنفاذ منها لتوسيع دائرة الشقاق واستثمارالخلاف فى غير صالح مصر والسعودية والعرب.
وأظن أن من واجب من يتشكك فى صدق هذه الصورة أن يدقق النظر فى رؤية أحوال عالمنا العربى الراهن ليرى حجم الخطر على حقيقته وقد تبدد الحد الأدنى من التضامن العربى دخانا فى الهواء، بينما تحترق خمس دول عربية بحروب أهلية تستنزف مقدراتها!، ويزداد عمق التدخل الإيرانى فى مصائر أربع دول عربية، سوريا والعراق ولبنان واليمن تشكل قلب الشرق الأوسط!، ويكاد يكون التدخل الخارجى قاسما مشتركا فى الشأن العربى لاتفلت من بأسه دولة عربية واحدة!، كما تتآكل قدرة العرب جميعا على الحفاظ على حقوقهم ومقدراتهم الوطنية وحماية أمنهم القومى!، وتغوص أيادى الدول الإقليمية فى المنطقة، إيران وتركيا واسرائيل فى عمق الشأن العربى من خلال صور عديدة من التدخل المباشر وغير المباشر، تبلغ ذروتها فى وجود غير مشروع لقواتها المسلحة فوق الارض العربية!،بينما تنشغل كل من مصر والسعودية جناحى الامة العربية بمشاغلهما الداخلية تحت ضغوط الخارج وتأمر جماعات العنف والارهاب التى تحاصر مصر وتهدد أمنها، وتقحم السعودية فى مشكلات أمنية وأقتصادية بهدف إضعافها واستنزاف قدراتها واشغالها عن محيطها العربى!.
ومع الأسف سوف تتحمل السعودية ومصر أمام التاريخ جزءا كبيرا من مسئولية هذه الصورة الصعبة، ليس لانهما(حاشا لله) كانا سببا أصيلا فيما حدث، ولكن لان إدراك الدولتين لأهمية تطابق أهدافهما الرئيسية فى مواجهة هذه التحديات الخطيرة، وضرورات تعاونهما المشترك دون سقف أو حدود أو شروط لمواجهة هذه التحديات لم ترتفع بعد إلى حدود مسئوليتهما التاريخية!، وبدلا من أن يساعد كل منهما الآخر على تحرير إرادته وتقوية شوكته، ويمارسان معا دورهما المسئول والمشترك فى ضبط إيقاع عالمنا العربى، وتعزيز قدرته المشتركة على حماية مصالحه الوطنية وأمنه القومى، ويحيلان جهود الدولتين دفاعا عن الحق والأمن العربى إلى خطط قومية مشتركة تشكل عنصرا رادعا لكل من يتجرأ على الحق العربى، ينشغل كل منهما بظروفه ومشكلاته الداخلية وهذا هو عين ما يريده أعداء العرب..، والأشد أسفا أن يصبح تعاون البلدين فى هذه الظروف العصيبة مشروطا بقيود تضعف مصر وتضعف كلاهما! بدلا من أن تتوحد إرادتهما فى مواجهة هذا التحدى، تأسيا بدروس تاريخية لاتزال تشكل الإرث العظيم لهذه العلاقات رغم سحابات صيف تظلل علاقات البلدين الآن نأمل أن تكون طارئة.
هل يمكن لمصرى أن ينسى موقف الراحل العظيم الملك فيصل فى مؤتمر الخرطوم بعد هزيمة 1967؟!، أو يتناسى موقف الملك الراحل عبدالله عندما أرسل وزير خارجيته الأمير سعود الفيصل إلى باريس ليطلب من الغرب أن يرفع يده عن مصر لأن حصار مصر حصار للسعودية؟!.
وهل يمكن لعربى أن ينسى وجود القوات المصرية فى حفر الباطن دفاعا عن أمن السعودية والخليج فى مشهد خالد من مشاهد التضامن العربى؟!، أو يتشكك فى التزام رئيس جمهورية مصرعبدالفتاح السيسى وهو يعلن مرارا وتكرارا أن أمن السعودية والخليج جزء من أمن مصر، وأن المسافة بينهما لاتعدو أن تكون مجرد (فركة كعب)؟!، وماذا يكون مصير الأمن العربى ومصير أمن الخليج والسعودية إذا ما تم إضعاف قدرة مصر لأن أصحاب النيات السيئة يتشككون فى موقفها من قضايا الأمن القومى رغم توحد مصر والسعودية فى حربهما المشتركة ردا على عدوان صدام حسين على الكويت.
وما الذى يمكن أن تحصده السعودية ويحصده العرب أن ضعفت مصر وذهبت إلى الفوضى غير البناءة بسبب حصارها الاقتصادى سوى ان يكون مصيرهما نفس مصير الثور الأبيض بعد أن أُكل الثور الأحمر وتبدد بالكامل أمن الشرق الأوسط واستقراره!.
وأحسب أن التزام مصر بشروط الأمن العربى القومى، ووحدة أمنها وأمن دول الخليج، وضرورة توحد الموقف العربى فى الحرب على جماعات الإرهاب واجتثاثها من جذورها، موقف مصرى أصيل لايحتمل التشكيك، يصدرعن إيمان عميق بوحدة المصالح والمصير، وضرورات العمل العربى المشترك لمجابهة التحديات المشتركة التى تواجه مصر وتواجه السعودية كما تجابه كل بلد عربى بعد أن بلغ التدخل الخارجى السافر فى الشأن العربى ذروته، لايعفى دولة عربية واحدة من هذا التدخل وأصبح الإرهاب سيفا مسلطا على الجميع.
وأحسب أيضا أن الذين يحاولون التشكيك فى موقف مصر من قضايا الأمن العربى بدعوى أنها لم تشارك فى الحرب البرية فى اليمن ضمن تحالف السعودية، أو أن لها موقفا مختلفا من الأزمة السورية يخلص فى ضرورة الحفاظ على الدولة السورية، هم من هواة الصيد فى الماء العكر يخلطون بين أوراق مختلفة لاينبغى خلطها، لأن مصر بالفعل جزء من تحالف السعودية، قامت بواجبها على النحو الأكمل فى باب المندب لرد عدوان الحوثيين على الشرعية اليمنية وعلى إطلاقهم الصواريخ الإيرانية الصنع على إمارات عسير ونجران وجيزان السعودية فى مناطق الحدود، وتجرؤهم الأخير على توجيهها إلى مدينة مكة لتهدد أقدس أماكن المسلمين، وإن كانت تجربة مصر فى اليمن تقول بكل الوضوح، أن الحسم العسكرى فى اليمن يكاد يكون متعذرا، وإن كان يصعب الوصول إلى تسوية سياسية ناجزة دون أن يتأكد على ساحة القتال قوة التحالف السعودى، ومصر فى مساندتها للدولة السورية تساند فى الحقيقة أمن الشرق الأوسط واستقراره وتساند الشعب السورى فى أزمته الكارثية دون أن يكون لذلك أدنى علاقة بنظام حكم بشار الأسد الذى يستحق الرحيل، فضلا عن ان مصر حرصت دائما على أن تظل هذه الخلافات المحدودة فى إطار اجتهادات الرؤى دون أن تحاول توظيفها للإضرار بأى من مواقف السعودية، التزاما من جانبها بأن قضية الامن العربى هى قضية مصير ووجود لاتخضع لأى اعتبارات تكتيكية، وينغبى ان تعلو على أى شروط أقتصادية او سياسية.
وليسمح لى الأشقاء العرب أن أكون أكثر صراحة وأسألهم، هل يمكن أن يغنى التحالف مع تركيا رجب الطيب أردوغان عن التحالف مع مصر السيسى, أو يكون بديلا لها فى خدمة أمن العرب القومى، رغم ما يعرفه الجميع عن خطط أردوغان فى سوريا والعراق كى يصبح المهيمن على أمن الشرق الأوسط عودة إلى أحلام الخلافة العثمانية التى كانت تفرض هيمنتها وخراجها على كل بلد عربى!، وهل يجوز أن يستغل أردوغان علاقاته مع بعض الدول العربية ليبرر وجود قواته العسكرية فى العراق وسوريا غصبا عن إرادة الدولتين واستهتارا بالقانون الدولى؟!، وما الذى يفيد الأمن العربى من وراء ذلك وقد كان ظن بعض العرب أن التحالف مع تركيا يمكن أن يكون بديلا للتحالف مع مصر ويمكن أن يوازن أطماع إيران فى الأمن العربى، ثم جاءت علاقات التعاون الوثيق بين طهران وانقرة لتبدد هذه الآمال على نحو سريع!.
وأظن ان هذه الأسئلة المهمة لاتمنع العرب من تحسين علاقاتهم مع كل القوى الإقليمية بما فى ذلك إيران وتركيا فى إطار ضمانات قومية تعطى الأولوية للتضامن العربى، وتقدم أمن العرب القومى على كل ما عداه دون اللجوء إلى سياسات المحاور وضرب صديق بصديق!..، وأظن أيضا إنه ليس من حق مصر الدولة المدنية القانونية الحديثة أن تصادر على أى دور قيادى لأى دولة عربية إذا استهدف هذا الدور تعزيز قدرة العرب ومكانتهم الدولية والحفاظ على أمنهم القومى، كما انها لا يمكن أن تفعل ذلك لأن مصر منذ مؤتمر الخرطوم بعد نكسة 67 تدرك جيدا أن دورها الحقيقى أن تكون قوة ضمن كل عربى قوى، يدخل ضمن مسئولياتها الأساسية أن يتناغم دورها مع ادوار عربية أخرى فاعلة ومؤثرة ومتضامنة دون سباق على زعامات منفردة او مكاسب آنية، لأن عصر الزعامات المنفردة قد ولى وانتهى، بل لعلى أملك شجاعة القول بأن مصر كانت تنتظر من السعودية وللسعودية مالها من مكانة بين دول الخليج أن تعمل على تخفيف غلوء عداء قطر لمصر، ليس لان قطر تشكل خطرا يمكن أن يهدد مصر أو يفككها، لان مصر منذ عهد الملك مينا دولة موحدة ومجتمع متماسك يصعب ان يتفكك، ومهما تكن أسباب ضعفها المؤقت فان هذه الأسباب إلى زاول، ولكن تاكيدا لدور السعودية ضمن دول الخليج الذى ينبغى ان يحرص على لم شمل الجميع وتنقية الأجواء العربية من اية خلافات تعكر صفو التضامن العربى، ولان من صالح العرب جميعا أن تعود مصر قوية متماسكة تسهم بدورها المسئول فى قوة عالمها العربى وتعزيز أمنه القومى دون أن تتدخل فى الشأن الداخلى لأى من الدول العربية أو تنكفئ على نفسها أو تنشغل بمشكلاتها المتراكمة.
وباختصار فإن ما ينبغى قوله بوضوح بالغ، أن السعودية تجابه تحديات خطيرة وضحت دون لبس أو غموض خلال تصويت الكونجرس الأمريكى الأخير على مشروع قانون (جاستا) وتجسدت فى سياسيات غربية جديدة تحرص على إضعاف دور الشرق الأوسط فى الاستراتيجيات العالمية، وتجريده من وضعه المتميز كمخزن للطاقة يحتاجه العالم الغربى, كما تحرص على إضعاف قدرة السعودية ودول الخليج الاقتصادية حماية لمصالحها بينما تعمل على تمديد نفوذ إيران داخل العالم العربى والشرق الأوسط فى خطة واضحة تستهدف إضعاف الأمن العربى، وتجابه مصر فى الوقت نفسه تحديات مماثلة تستهدف إضعافها وحصارها وعزلها عن عاملها العربى وإشغالها بمشاكلها المتراكمة بهدف إضعاف أمنها وأمن العالم العربى..، وما عدا هاتين الحقيقتين الأساسيتين تصبح باقى الصورة مجرد تفاصيل وخلافات صغيرة يسهل حصارها وتصفيتها من خلال إعمال آلية التنسيق المشترك التى تعزز الحوار المصرى السعودى وتضع علاقات البلدين على المسار الصحيح.