لماذا وكيف تفاقمت المشكلة الاقتصادية إلي حد ألزم مصر بالدخول في برنامج صعب للإصلاح الاقتصادي، تفوق مطالبه قدرات فئات عديدة من المجتمع المصري تنتمي إلي الطبقة الوسطي والفئات الأقل قدرة في ظروف عصيبة تخوض مصر خلالها معركة حاسمة مع الإرهاب تتطلب تركيز الجهد الوطني واصطفاف المجتمع باكمله وحشد كل إمكاناته لكسب هذه المعركة، ومع بدايات عام رابع من حكم الرئيس السيسي، يري البعض أنه ربما كان الأصلح تأجيل هذه الحزمة من الإجراءات الصعبة إلي مابعد الانتخابات الرئاسية القادمة من باب المواءمة السياسية، التي تفرض علي كل رئيس أن يتحسس ردود أفعال إجراءاته في عام انتخابي يتطلب مرضاة الجميع، ويتربص به فلول جماعة الإخوان ورعاتها المتأمرون في قطر وتركيا الذين يسعون إلي تفويض أسس الدولة المصرية، ويصرون علي ترويج خطاب كراهية، يستهدف إثارة الفتن وقسمة الصف الوطني!
وإذا كانت كل الشواهد والدلائل والمؤشرات علي أرض الواقع تقول بشفافية واضحة، إن مصر تعبر عنق الزجاجة بنجاح، وأن الأزمة في طريقها للإنفراج.. دلالة ذلك ارتفاع حجم احتياطات النقد الأجنبي الذى لم يكن قبل عدة شهور يكفي للوفاء باحتياجات مصر الاساسية من الغذاء الذي نستورد 70 في المائة من الخارج لأكثر من ثلاثة أشهر، إلي 35 مليار دولار تمثل الحد الأقصي الذي وصلت إليه قبل الأزمة، مع عودة تحويلات العاملين في الخارج إلي معدلاتها الطبيعية عبر البنوك، وزيادة حجم الصادرات المصرية إلي الخارج بنسبة تقرب من 10 في المائة في العام وإنخفاض الواردات بنسب أكبر، وارتفاع أعداد السياحة علي نحو مطرد جعل الحاقدين يحاولون استهدافها، فضلا عن مؤشرات التحسن في الاقتصاد الكلي التي تتمثل في خفض عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري وعجز المدفوعات.. والأهم من ذلك كله الارتفاع المتزايد في حجم الاستثمارات المباشرة في مشروعات جديدة تولد المزيد من فرص العمل، والانخفاض الكبير الذي طرأ علي معدلات البطالة التي هبطت من حدود 12 في المائة إلي حدود 8 في المائة لأن مشروعات التنمية الكبري نجحت في توليد مايقرب من ثلاثة ملايين فرصة عمل خلال السنوات الثلاث الماضية ذهب أغلبها للشباب، فضلا عن الانحسار المؤكد لمخاطر الإرهاب الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة في سيناء، ويتكبد خسائر بشرية مؤثرة في صعيد مصر والدلتا، بما يؤكد أن الفرج قريب وأننا نكاد نخرج من عنق الزجاجة، وأننا علي الطريق الصحيح، وإذا كان كل ذلك صحيحا وهو صحيح بالفعل، فما هي الدروس المستفادة من هذه الأزمة الصعبة وقد قاربت علي النهاية حتي يمتنع الوقوع في غياهبها المرة مرة أخري، ونطمئن جميعا إلي أن الطريق سالكة ومفتوحة أمام مصر الغد والتي ننشدها جميعا؟!
وأظن أن أول الدروس المستفادة من الأزمة الاقتصادية هو ضرورة فصل المسار الاقتصادي عن شواغل السياسة ومواءماتها التي كثيرا ما تفسد الخطط وتؤجل برامج الإصلاح وتعطل القرارات الصحيحة، وتحمل البلاد تبعات ضخمة وثقيلة لأسباب شعبوية لاتخلو من عمليات نفاق وخداع للرأي العام، يمليها التقاعد والعجز عن اتخاذ القرار الصحيح في توقيته الصحيح!، وتكاد تكون الشعبوية هي السبب الرئيسي الذي أعاق خطط الإصلاح علي مدي ثلاثة عقود، تعددت فيها محاولات الاصلاح التي نكص جميعها علي عقبية إلي حد أن مصر لم تكمل أيا من برامج الإصلاح التي بدأتها، اكتفاء بعمليات إصلاح مؤقت تتناول ظاهر المشكلة دون أن تغوص إلي أعماقها طلبا لحل صحيح يجتث أسباب المشكلة من جذورها، بما أدي إلي تفاقم المشكلة دون حل لأن الحل صعب لايقدر عليه صاحب القرار!
وفي حالات كثيرة يتخفي العجز عن مواجهة حقائق الواقع تحت شعارات وطنية رنانة لاعلاقة لها بحقائق الاقتصاد وقوانين السوق، لأنه لامعني لان نخوض علي امتداد 12 عاما معركة دون كيشوتية للحفاظ علي قيمة الجنيه الذي تهبط قيمته ازاء الدولار وسلة العملات الحرة لأسباب حقيقية تخلص في أننا نستهلك بأكثر مما ننتج ونستورد بأضعاف ما نصدر، وننفق بأكثر من دخولنا ونستدين بأكثر من قدرتنا علي السداد، وفضلا عن ذلك نصر دولة وحكومة وشعبا علي أن نمضي في الطريق المسدود حتي نهايته، تكاد تكون المهمة الوحيدة للحكم هي تأجيل الحسم وتعطيل القرار خوفا من ردود الأفعال المتوقعة، لأننا منذ زمن نعرف جيدا أننا نستورد 70 في المائة من حاجاتنا الغذائية الاساسية القمح والذرة والفول والزيت واللحوم والدواجن دون أن نفعل شيئا جادا رغم معرفتنا المؤكدة بمخاطر هذا الموقف، وأن من لاينتج غذاءه يصعب عليه المحافظة علي استقلال إرادته وقراره! وكذلك الأمر مع الصناعة التي نستورد 70 في المائة من مكوناتها من الخارج، نشتريها بالعملة الصعبة، ولهذا أصبحت صناعتنا خاسرة عاجزة عن المنافسة لأن كلفتها الاقتصادية أعلي من الخارج.. ولهذه الأسباب لم ننجح في تصنيع عجلة أو دراجة بخارية أو طلمبة رفع المياه الي الأدوار العليا أو عداد الكهرباء، نعتمد في جميع ذلك علي الاستيراد من الخارج! وما من شك أن الفصل بين مسار الاقتصاد الوطني وشواغل السياسة ومواءماتها يتطلب أول ما يتطلب احترام قواعد الاقتصاد وقوانين السوق، وشجاعة مواجهة النفس وعلاج أسباب القصور والتقصير أولا بأول كيلا تتراكم الأخطاء لتصبح تلالا يصعب التصدي لها!
ولايقل أهمية عن فصل المسار الاقتصادي عن شواغل السياسة ومواءماتها أن نعيد النظر علي نحو جاد من نظم الإدارة المحلية ابتداء من منصب المحافظ إلي رئيس مجلس المدينة والعمدة ورئيس مجلس القرية بعد أن جاوز فساد المحليات حد الركب، وبات واضحا للجميع أن هذا الحجم الهائل والمتنوع من المشكلات حدث وتضخم تحت سمع وبصر الادارة المحلية دون أن ندري أو نمنع أو نراقب بما يشبه ان يكون تواطؤا ابتداء من عشرات الأبراج الآيلة للسقوط في مدينة الاسكندرية في شوارع ضيقة لايتجاوز عرضها خمسة أمتار بما يشكل جريمة صارخة تمت في وضح النهار الي عمليات نهب أراضي الدولة التي بلغت مساحتها مليوني فدان تشكل ربع مساحة الأرض المزروعة تم الاستيلاء عليها جهارا ونهارا وصولا الي العشوائيات التي تحاصر كافة المدن المصرية.
وحده الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي رفض هذا السياق المألوف الذي أخذ مصر إلي منحدر الهاوية، وخرج علي شعبه وناسه يكشف الحقائق الصعبة ويعلنهم بالأبعاد الكارثية للموقف إذا استمر الوضع علي ما هو عليه، وحده الذي كان يمكن أن يتخذ هذه القرارات الصعبة ويلزم شعبه أن يتجرع مر الدواء أملا في التعافي، في عام انتخابي، رغم ما يمكن أن يترتب عليها من هبوط شعبيته وربما يكون الرئيس السيسي قد خسر بعض شعبيته لكنه كسب احترام وتقدير كل مصري يعي أزمة بلاده، كما كسب تقدير العالم أجمع لشجاعته في الحرب علي جبهتين جبهة الإصلاح وجبهة الإرهاب، وما من شك أن نجاحه في كسب الحرب علي الجبهتين سوف يجعله في صدر قائمة القادة التاريخيين الذين قدموا مصالح الوطن علي أي مصالح شخصية.
درس الأزمة الاقتصادية الثالث والأهم، يتمثل في خطورة غياب الدولة القوية التي لا تخضع للابتزاز أو الإرهاب، وترفض أنصاف الحلول التي لا تقدم ولا تؤخر، وتصر علي تطبيق القانون وإنفاذ أحكامه علي الجميع دون تمييز، وتملك قرون استشعار ذكية تمكنها من التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها، وإزالة أسباب المشاكل أولابأول قبل أن تتراكم علي نحو يجعل الإصلاح متعذرا صعب المنال، دولة قوية ذات رؤية وهوية، تحسن استخدام موقعها العبقري الذي جعلها سرة العالم ومركزه اللوجيستي الأعظم الذي يربط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتدرك أن ثروتها البشرية هي أعز ما تملك، لأنها تملك شعبا قادرا علي صنع المعجزات، يبرق معدنه ذهبا في المصاعب والملمات، يتحتم تنمية قدراته علي نحو مستمر بالعلم والتدريب كي تصبح الأمة المصرية ذات عقل جمعي رشيد، ترفض الخرافة وتحسن التمييز بين الغث والسمين، لا تنساق وراء إشاعة كاذبة ويعصي علي محاولات تفتيتها وتزييف وعيها وتخريب عقلها.
لقد جرب المصريون مخاطر غياب الدولة القوية عقب ثورة يناير وعلي امتداد أربعة أعوام هي عمر الفترة الانتقالية التي استشرت خلالها الفوضي في كل أرجاء البلاد، وغاب الأمن وسادت البلطجة الشارع المصري وصار في إمكان كل قادر أن يفرض قانونه حماية لمصالحه غير المشروعة!، شهدنا ذلك في أحداث «كرداسة» التي جسدت أقبح الصور وأكثرها شرا، وشهدناه بصورة مختلفة في أحداث «الوراق»، حيث تجرأ البعض علي رفع السلاح في مواجهة الدولة لإرهابها كي تمتنع عن تطوير جزيرة الوراق لصالح أهلها بمن في ذلك واضعو اليد علي أراضي طرح النهر التي كانت الحكومة المصرية علي مدي قرون عديدة تحصر مساحتها كل عام إثر فيضان النهر بعد انتهاء موسم الفيضان لتعيد تأجيرها للأهالي بعقود موقوتة، وبرغم أن تطوير »الوراق« لتصبح معمورة متحضرة صديقا للبيئة لا يلوث النهر بكميات متزايدة من الصرف الصحي، سوف يفيد أول ما يفيد سكان الجزيرة من الملاك والمستأجرين وواضعي اليد، خرج البعض في مظاهرات تحمل السلاح جريا وراء الاشاعة دون أن يعطوا أنفسهم فرصة معرفة حقائق الموقف والصورة، والتأكد من أن الجميع سوف يخرجون من مشروع تطوير الجزيرة رابحين إن صح العزم، وجلست الحكومة مع أهل الوراق علي مائدة حوار مستديرة عنوانها الصراحة والشفافية.
وما من شك أن أحداث «الوراق» تحمل للدولة درسا مستفادا مهما لا ينبغي إغفاله، مفاده، أنه لا يكفي الدولة أن تملك رؤية صحيحة للمستقبل، لأن الأهم من الرؤية الصحيحة أن تملك قدرة التواصل مع جمهورها لإقناعه بصواب هذه الرؤية، وجدارة استحقاقها للحوار البناء مع قوي الشعب وتجمعاته المختلفة، وإقناعهم بأن هذه الرؤية تخدم مصالح الشعب والدولة، وهذا هو عين ما حدث في المشكلة الاقتصادية، عندما أخفقت الحكومة وأجهزة إعلام الدولة في أن تؤكد للمصريين أن الاصلاح الاقتصادي بات ضرورة حتمية، وأنه لا مفر من تحرير سعر الصرف لأن الاستمرار فيما كنا فيه يعني فشل الدولة وإفلاس الخزانة العامة!
وما من شك أن واحدا من أهم أسباب موجة التفاؤل التي سادت مصر في أعقاب مؤتمر شباب الإسكندرية أن المجموعة الاقتصادية وعلي رأسها وزيرة التخطيط (هالة السعيد) نجحت في أن تنقل للناس حقيقة الوضع الاقتصادي ومخاطره عبر لغة بسيطة واضحة يسهل فهمها ومن خلال أدلة صحيحة يستوعبها العقل الرشيد..، وبالطبع يمكن أن نلوم الإعلام ونتهمه بالتقصير لكن في مصر عادة ما يكون الإعلام آخر من يعلم!، لأنه ما من قانون يلزم الحكومة الحرص علي تدفق المعلومات في توقيتها الصحيح رغم كثرة الحديث عن أهمية انسياب المعلومات وحق المواطن المشروع في أن يعرف..، وأظن أن الدرس الأخير المهم المستفاد من دروس المشكلة الاقتصادية هو، ضرورة الاسراع بإصدار قانون مفعل للمعلومات يتيح بأكثر مما يمنع، ويعطي لكل صاحب حق الحق في الحصول علي المعلومة في توقيتها الصحيح، ويمكنه من معرفة أسباب المنع كما يمكنه من اللجوء إلي القضاء المستعجل إن عز الحصول علي المعلومة في توقيتها الصحيح، لأن تدفق المعلومات لم يعد مهما فقط للصحفيين إن كنا ننوي محاسبتهم علي نشر معلومات خاطئة ومغلوطة لم تخضع للتدقيق، بل أصبح الحصول علي المعلومات حقا من حقوق المواطن الأساسية، كما أصبحت الشفافية عنوانا واجبا علي صحة التوجه الاقتصادي، وواحدا من أهم معايير تقدم الأمم وتأكيد جديتها في محاربة الفساد.