لانعرف بعد، ماذا يكون مستقبل العراق الشقيق بعد أن نجحت قواته المسلحة بمساعدة مهمة من قوات التحالف الأمريكى فى تحرير جميع مدنه وغالبية أراضيه، وخاض فى سبيل ذلك معارك ضارية آخرها معركة الموصل التى دار فيها القتال شرسا من شارع لشارع، ومن زقاق لزقاق، ومن بيت الى البيت الى أن تحررت المدينة شرقا وغربا، وخرجت داعش على أعقابها فى هزيمة مدوية كسرت عنقها وإن كانت لاتزال تتشبث بجيوب صغيرة إلى زوال، ومنذ الغزو الأمريكى قبل أربعة عشر عاما والشعب العراقى يعيش فى مسلسل من معارك دامية سقط فيها أكثر من مليون عراقي، ودمرت مقدراته وفقد وحدته واصبح نهبا للطائفية والعرقية التى تكاد تفصله الى ثلاث دويلات، شيعية فى الجنوب تعوم على بحر من النفط، وعربية صغيرة فى الوسط فقيرة الموارد وكردية فى الشمال تمتعت بنوع من الحكم الذاتى خلال فترة الغزو الأمريكي، وتعتقد أن الفرصة سانحة لتصبح كردستان العراق دولة مستقلة يتم استفتاء الشعب عليها قريبا رغما عن أنف العاصمة بغداد. وأيا كانت وجهات نظرنا فى حكم صدام حسين، ورغم كل مخاطره وحماقاته وقد كان مفتونا بسطوته على الجميع يحكم بالحديد والنار، فقد كان هناك عراق واحد ودولة موحدة تملك مقومات التقدم والاستمرار، يتمتع فيها أكراد والشمال بنوع من الحكم الذاتى وعدد من الحقوق الثقافية أبرزها الاعترافى باللغة الكردية لغة رسمية فى كردستان بعد اتفاق وقعه الملا الكبير مصطفى البرزانى مع صدام حسين، وكان نصف العراق الشيعى يتعايش مع نصفه السنى فى أمن وسلام، يتجاورون ويتصاهرون ويشكلون جزءا من شعب واحد يصعب فيه التميز بين السنة والشيعة، سواء فى نقابات المهنيين ابتداء من الصحفيين إلى المحامين والأطباء وغيرهم، أو فى اتحادات الرياضة وفرق كرة القدم وغيرها من ألوان الرياضات، وكانوا يتعبدون فى مساجد متجاورة ويتسامرون على مقهى واحد، وكان من الصعب على أى زائر يأتى إلى بغداد أن يلاحظ فروقا واضحة بين السنة والشيعة، صحيح كان هناك نوع من التميز السلبى لعدد من قيادات شيعة الجنوب، لكن الحوزة الدينية فى النجف الأشرف كانت تشكل المرجعية الدينية العليا لشيعة العراق، ولم تكن مرجعية قم الإيرانية ترقى إلى مرجعية النجف الأشرف، وكانت مجرد مزار شيعى إيرانى لايفضل أى من مزارات العراق وعتباته المقدسة التى يأتيها الشيعة من كل أرجاء الأرض فى مواسم الشيعة وأعيادهم، وبعد الرحيل حيث يفضل كل شيعى عراقيا كان أو إيرانيا أن يوارى فى ثرى كربلاء والنجف الأشرف.
الآن يسكن الشيعة والسنة فى العاصمة بغداد أحياء منفصلة تفصلها جدران شاهقة واستحكامات دفاعية بعد حرب أهلية مرة تبادل فيها الطرفان هدم المساجد ونبش القبور وقتل الأئمة وإلقاء جثثهم بين تلال القمامة!، فى حرب طاحنة استمرت شهورا وأعواما مزقت النسيج الوطنى للشعب العراقي، ومكنت الميليشيات الشيعية التى كانت تلقى مددا وعتادا مستمرا يأتيها بسخاء بالغ من طهران من ان تكون عنصر ترجيح فى موازين القوة بين السنة والشيعة فى دولة تمزقت أواصر وحدتها قصدا وعناية بفعل الغزو الأمريكي!.
والأنكى والأكثر سوءا أن يفقد العراق وجهه العربى ويصبح خارج معارك القوة فى الصراع العربى الاسرائيلى وخارج منطقة الخليج، وأن تصبح طهران هى بوصلة توجهه الرئيسى وقد تكاتف على إحداث هذا التغيير الاستراتيجى المهم توافق عاملين رئيسيين رغم تناقض مصالحهما الواضح.
أولهما أن واحدا من بين أهم أسباب الغزو الأمريكى للعراق هو ضمان أمن اسرائيل وتفوقها الساحق على كل جيرانها العرب، بإخراج العراق من دائرة الأزمة العربية..، وتحت ذريعة تفوق الشيعة العددى على السنة فى العراق جرى تسييس الطائفية فى العراق، وتم تأسيس جميع الاحزاب السياسية الجديدة فى العراق على أسس طائفية لمصلحة إحداث تغيير جذرى فى طبيعة السلطة فى العراق همش مركزية الدولة وأعطى لكل محافظة الحق فى الانفصال والاحتفاظ بثروتها البترولية وهمش مصالح السنة والعرب لتصبح سلطة القرار فى أيدى الشيعة.
أما السبب الثانى فمصدره أن ايران جارة العراق اللدود وجدت فى هذا التغيير الضخم الذى مكن الشيعة من حكم العراق الفرصة المواتية لقتل العراق كدولة منافسة لإيران على المستويين العسكرى والمدني، بعد أن خاض الاثنان حربا ضروسا استخدما فيها مختلف الاسلحة بما فى ذلك الاسلحة الكيماوية أذكى الغرب والأمريكيون على وجه الخصوص أوارها، وربما يكون صعبا أن نعرف على وجه التحديد ان كانت الولايات المتحدة وايران قد توافقتا على هذا الهدف، لكن الامر المؤكد ان احتلال الولايات المتحدة العراق كان أكبر هدية استراتيجية قدمتها واشنطن للنظام الإيرانى كى يمضى قدما فى مشروعه التوسعي، الذى يبدأ بإحكام السيطرة على العراق وإشغاله بمشكلاته الداخلية كى يتمدد النفوذ الإيرانى إلى مختلف دول المشرق العربي، وهذا هو مايشغل طهران الآن التى تخطط وتنفذ مشروعا لايقل خطورة هو فتح ممر مباشر يمتد من العراق الى سوريا ولبنان، يسهل إرسال العتاد والسلاح والمؤن عبر محافظة ديالى العراقية الملاصقة لحدود سوريا يقوم على تنفيذه الجنرال الايرانى قاسم السليمانى من الحرس الثورى الإيراني.
ومايثير الدهشة والعجب أن تدخل الولايات المتحدة عملية غزو العراق وتتورط فى حرب صعبة تفقد خلالها أكثر من 4500 جندى أمريكي، إضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين، وتنفق فيها أكثر من تريليون دولار أرهقت الخزانة والاقتصاد الأمريكيين لتتيح الملالى إيران أعدائها اللدودين هذه الجائزة الضخمة على طبق من ذهب.
ولو صح أن الإيرانيين حققوا هذه المكاسب الضخمة دون أن يكون ذلك فى حساب الأمريكيين ووعيهم لكان ذلك أكبر خيبة ومصيبة، لأنه بعد 14 عاما من الغزو الأمريكى يكاد العراق يكون دومينا تابعا لإيران تملأ المنتجات الايرانية أسواق مدنه وقراه حتى الأسمنت والطوب يتم استيراده من طهران، وكما كتبت صحيفة نيويورك تايمز حتى الشباب العراقى إذا شعر بالسأم فيمكنه أن يتناول الحبوب المخدرة القادمة من إيران.
ولا يقل تأثير إيران على الوضع الاقتصادى فى العراق عن تأثيرها على الحياة السياسية، حيث يشكل التحالف الشيعى الكتلة الأكبر فى كل الانتخابات البرلمانية فضلا عن روابط إيران بالحكومة العراقية والحركات والأحزاب السياسية ومراكز صنع القرار، وحرص طهران الدائم على استمرار خلخلة الأوضاع السياسية فى العراق بما يجعل الحكومات العراقية فى حالة احتياج مستمر لدعم إيران ومساندتها، وتحت شعار وحدة المذهب الشيعى وضرورة الالتزام بولاية الفقيه تسعى إيران بصورة مستمرة إلى إضعاف المرجعية الشيعية العليا فى النجف الأشرف وزيادة تأثيرها على رجال الدين فى الحوزات العلمية الدينية وثمة ما يشير إلى أن تأثيرات إيران ودورها فى الحوزة الدينية العراقية ربما تكون أقوى إن تولى آية الله محمود هاشمى شاهر خلافة المرجع الدينى على على السيستانى فى العراق خاصة أن السيستانى أكثر التزاما بمصالح العراق الوطنية. وخلاصة القول أن إيران تسعى بدأب شديد إلى الهيمنة على كل مناحى الحياة فى العراق، ابتداء من الاقتصاد إلى السياسة والأمن والثقافة، تستثمر البعد العقائدى المذهبى بهدف إضعاف الوجه العربى للعراق وتحويل العراق إلى منطلق تتوغل منه إلى باقى دول المنطقة عبر معبرها الجديد الذى يستهدف إنشاء ممر يربط العراق وسوريا ولبنان عبر محافظة ديالى العراقية كما تحرص على دعم أصدقائها سواء من الأحزاب السياسية أو من الشخصيات العامة خلال المعارك الانتخابية، إضافة إلى العشرات من وسائل الاعلام والقنوات الفضائية الايرانية والعراقية التى تسهم بصورة واضحة فى تشكيل الرأى العام العراقي.
والحق أن دور إيران فى العراق أضر بالعراق والعراقيين ضررا بالغا، وبقدر ما حقق لإيران مكاسب استراتيجية واقتصادية وثقافية مهمة، وفتح لها طريقا إلى قلب الشرق الأوسط وأزاح عن طريقها منافسا قويا، فضلا عن توغلها داخل المجتمع العراقي، لم يحصد العراق سوى تهميش مصالحه وإضعاف قدراته الأمنية والعسكرية، وتقليص تأثيره فى محيطه العربي، لكن الأخطر من جميع ذلك أنه ترك العراق نهبا للطائفية تنهش وحدته وتهدد بانفضال مكوناته الشعبية والأساسية!، بل واندثار وجوده خاصة إذا أصرت كردستان العراق على الانفصال فى دولة مستقلة وتم تهميش حقوق العشائر العربية وسط العراق، وتوطن العنف فى مناطق الوسط التى تم تبديد مصالحها. وبقدر ما كان تحرير مدينة الموصل علامة فارقة أنهت سيطرة داعش على مصير العراق بقدر ما وضعت العراق على مفترق طرق صعبة، يواجه وهو على مشارف انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة أسئلة صعبة ومهمة، هل يستمر غول الطائفية ينهش وحدة الوطن العراقى ؟!، أم أن العراق سوف يندثر مع وجود شرق أوسط جديد يضم دولة كردية شمال العراق، لتزيد هيمنة إيران على منطقة الشرق الأوسط، ويتعمق الخلاف العربى الايرانى حول قضايا الأمن؟! أم أنه لا تزال هناك فرصة رشيدة تبقى على وحدة العراق حفاظا على توازن القوى فى هذه المنطقة الاستراتيجية التى تربط آسيا بأوروبا عبر بحر إيجة ولا يمكن فصلها عن الشرق الأوسط؟
والواضح أن الأكراد شمال العراق مصممون على إجراء الاستفتاء على استقلال كردستان العراق فى موعده المعلن يوم 25 سبتمبر القادم، تأكيدا لحقهم فى تقرير المصير وتحقيقا لحلم يراود الأكراد منذ أكثر من مائة عام بعد الحرب العالمية الأولي، عندما وعدوا بدولة كردية، لكن بدلا من ذلك بقوا موزعين على دول سوريا والعراق وإيران إلى أن نجحوا فى الحصول على نوع من الحكم الذاتى قبل نهاية حكم صدام حسين، لم يلبث أن انهار عندما رفضت حكومة بغداد أن تمد أكراد الشمال بجزء من موازنة الدفاع يمكن كردستان من التصدى لعمليات الهجوم التى بدأها داعش، واستيراد أسلحة تساعد البشمرجة الكردية فى قتالها ضد داعش الذى كان قد حصل على أسلحة أمريكية جد متطورة من الجيش العراقى بعد هزيمة الموصل، ومع ذلك حارب الأكراد والعرب ببسالة ضد داعش، ولايزالون يحاربونه فى مدينة الرقة السورية التى اختارها أبو بكر البغدادى عاصمة لخلافته ومع تأكيدات رئيس كردستان مسعود البرزانى أن كردستان لن تضم بقوة السلاح أيا من أقاليم شمال العراق أو أراضيه إلا أن يكون شعبها راغبا ويتوافق كردستان والعراق على مائدة التفاوض، وربما لهذا السبب يتوقع مسعود برزانى أن تتم عملية الانفصال بسلاسة وعلى نحو هادئ يصون علاقات كردستان بالعراق حرصا على مستقبل العلاقات بينهما، فى الوقت الذى تنشط فيه إيران لتوثيق علاقاتها بكردستان على كل الأصعدة، لكن ما من شك أن انفصال كردستان يمكن أن يقوض الدولة العراقية فى غيبة رؤية واضحة لأوضاع ومستقبل العشائر العربية وسط العراق التى تهمشت مصالحها طويلا مع تزايد الانحياز الطائفى للشيعة ووجود ميلشيات شيعية قوية دقيقة الصلة بطهران تحكم الشارع العراقي!
يحتاج العراق الآن إلى نوع من التغيير الكيفى يقلص سلطة إيران وهيمنتها ويعيد إلى المواطنة اعتبارها ويقلل من غلواء الطائفية حرصا على ما يمكن أن يتبقى من وحدة العراق، خاصة أن نسبة غير قليلة من العراقيين بودهم أن يكون العراق مجرد تابع لايران!، ويعتقدون فى صدق انتماء العراق العربى ويحسون أن هذا الانتماء هو جزء من هوية العراق، بفقدانه يفقد العراق بوصلة توجهه الصحيح، وبرغم وجود دعوات قوية للتخفيف من غلواء الطائفية يشارك فيها الزعيم مقتضى الصدر ويقود أهمها عمار الحكيم وهو واحد من أبرز زعماء الشيعة بهدف تخفيف حدة الانقسام الطائفى فى الانتخابات القادمة إلا أن الحكيم الذى استقال من المجلس الاعلى الاسلامى وأنشأ حزبا معتدلا يحمل اسم «الحكمة» يتعرض لحملات غلاة الشيعة تساندها ايران بهدف اضعاف فرص الحكيم، فضلا عن أن المشكلة أعمق كثيرا من أن يتم علاجها من الظاهر خاصة أن أبرز المرشحين لمنصب رئيس الوزراء القادم هو نورى المالكي، وما لم تتقدم حقوق المواطنة على حقوق الطائفية وتعاد كتابة بعض نصوص الدستور ويصبح كل المواطنين متساوين أمام الدستور ويمتنع على الأحزاب الطائفية تشكيل ميليشيات مسلحة وتخفف طهران من هيمنتها، فسوف تظل الطائفية خطرا محدقا يهدد وحدة الدولة والشعب العراقي.