بقلم : مكرم محمد أحمد
عكس الشائع وعكس ما يروج له البعض، لا أعتقد ان حرية التعبير في مصر يمكن ان تتعرض في المدي المنظور لأخطار كبيرة تتهددها او تضيق عليها الخناق اوتقلل مساحة و نطاق أنتشارها، ليس فقط لانها تحقق للحكم فوائد جمة أهمها تفريغ شحنات وردود أفعال الشارع المصري علي مشكلات الحياة اليومية التي تزداد صعوبة،في شكاوي وصرخات واستغاثات، وفي احيان كثيرة في هتاف إلي السماء طلبا للعون علي الظالم والمفتري واكل حقوق اليتامي، ولكن لان حرية التعبير ترسخت في الشارع والحياة المصرية منذ نكسة 67، وخروج تظاهرات المصريين إلي الشوارع لاول مرة تدعو عبدالناصر إلي الافاقة واليقظة لما حوله، وتطالب بمحاكمة المسئولين عن النكسة..، ومنذ هذا التاريخ ترسخ الحق في حرية التعبير في مصر،ولم يعد مجرد نص يتكرر حرفا في كافة الدساتير المصرية ابتداء من دستور 1923 إلي الدستورالراهن، لتنطلق المكلمات(جمع مكلمة) في البيت والشارع والمقهي دون انقطاع تقتل الوقت وتجتر نفسها دون عائد حقيقي، لان الحكومات المصرية علي تتابعها أعتادت (الطناش) علي ردود افعال الشارع المصري!.
وما من شك ان حرية التعبير في مصر تكاد تكون مطلقة، توفر لها بحكم الدستور و القانون وأحكام وحيثيات المحكمة الدستورية العليا ضمانات عديدة تمكن الفرد من ان يقول ما يراه حقا، ويعرضه علي الآخرين حتي لو عارضوه وايا كان مضمونه،كما تؤكد ان حرية التعبير لا ينبغي ان تكون مقصودة لذاتها اومجرد صرخة في فراغ عريض لايسمعها احد، لان وظيفتها الاصيلة تخلص في تحقيق التغيير بالوسائل السلمية، وانهاء تفرد السلطة واحتكارها..، ومن ثم لا يجوز تعطيلها باي من الصور،كما لايجوز ان يكون القانون الذي يخدم النص الدستوري ويفسره معولا ينقض عليها ليفرض الصمت علي الآخرين.
وليس لازما ان تكون الاراء التي تشملها حرية التعبير محددة بصورة قاطعة اوهي الحق الذي لاياتيه الباطل اوتحقق مصلحة بعينها او تنحصر فيما هو صادق من الاقوال، وكلما تدخل المشرع بتدابير من شأنها تقويض الحماية التي كفلها الدستور لحرية التعبير كان ذلك منهيا لاهدافها، لان حرية التعبير هي الحرية الاصل التي لايجوز ان يتم اي حوار مجتمعي إلا في نطاقها، كما ان حق الفرد في التعبير عن رأيه حق مطلق، ليس معلقا علي صحة اقواله او تماشيها مع الاتجاه العام في بيئة بذاتها..، وفي جميع الاحوال لايجوز لاي سلطة بما في ذلك سلطة الدولة ان تفرض علي الاخرين صمتا بحكم القانون، كما لايجوز ان يكون القانون اداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الاخلال بأداء الوظيفة اوالخدمة العامة او مواطن الخلل في السلطة، لان غايتها إقرار حق الكافة في النفاذ إلي الحقائق المتصلة بالشأن العام،وإلي المعلومات الضرورية الكاشفة عنها بحيث تكون متاحة للجميع.
و=إذا كان الدستور والقانون واحكام وحيثيات المحكمة الدستورية العليا جعلت من حرية التعبير في مصر حقا مطلقا لا يجوز تقييده، وواحدا من الاصول الدستورية الثابتة كما هو الحال في كل بلد ديمقراطي، فان الامر يختلف كثيرا مع حرية الصحافة لانه رغم الضمانات التي قررها الدستور المصري بشأن حرية الصحافة واستقلالها في أداء رسالتها وحظر الرقابة عليها او انذارها او وقفها او الغائها بالطريق الاداري، إلا ان الدستور المصري شأنه شأن معظم دساتير العالم لا يكتفي بالتأكيد علي مبدأ حرية الصحافة تقديرا لاهميتها، وانما يترك للقانون أمر تنظيم هذه الحرية لان ثمة أجماعا عالميا تعكسه معظم دساتير العالم المكتوبة وغير المكتوبة علي أن حرية الصحافة لا يمكن ان تكون مطلقة شأنها شان حرية التعبير، لان حرية الصحافة ان لم يتم تنظيمها يمكن ان تكون وبالا علي حقوق المواطنين، وواجب المشرع كما تقول أحكام المحكمة الدستورية وهو ينظم حرية الصحافة ان يوازن بين المصالح الجديرة بالحماية بحيث لايضع من الحدود لهذه الحرية إلا ما قد يكون لازما لحماية حقوق آخري أكثر جدارة بالحماية لان الصحف لو تعد محدودة الانتشار والتوزيع، الامر الذي يجعل حرية الصحافة بصورة مطلقة وفي سياق منفلت ودون رابط او عقال امرا عصيا علي التحقق، يتطلب وجود ضوابط قانونية دقيقة وشديدة الوضوح تحفظ للصحافة حقها في الاستقلال، وتحميها من إرهاب السلطة وعسفها بحيث لاتصادر ولاتوقف ولاتغلق إلا بحكم قضائي، كما تحميها من تدخل رأس المال الذي يمكن ان يسيطر عليها عن طريق الملكية والاعلان.
وقد اصطلحت معظم التشريعيات التي تحكم الصحافة في العالم علي امكانية الحد من حريتها لحماية المصالح الاساسية للمجتمع التي تتمثل علي وجه التحديد، أولا في حق الدولة في الحفاظ علي اسرارها المتعلقة بالدفاع والامن الخارجي، وثانيا في حق نظام الحكم في الدفاع عن شرعيته وهيبته في مواجهة دعوات الانقلاب والتدمير من جانب جماعات العنف والارهاب، وثالثا في حق الجماعة الوطنية في الحفاظ علي قيمها الاساسية، ورابعا في حق الافراد في حماية حقوقهم الاساسية وأولها صيانة الشرف والاعتبار واحترام الحياة الخاصة..، وجميع ذلك يؤكد مبدأ خضوع الافراد لواجبات محددة يمليها صالح الجماعة، ربما تتطلب بعض القيود التي يمكن ان تلزم الافراد في ممارساتهم لحقوقهم شريطة ورود هذه القيود في نص قانوني واضح، وان يكون القيد لصالح اعتبارات اساسية تتعلق بالفضيلة والنظام العام، وفي امريكا رغم وجود نص يحظر علي الكونجرس القيام بسن أي قانون ينال او ينتقص من حرية الرأي والصحافة، لكنه يستثني من ذلك بعض الامور السرية المتعلقة بالامن والدفاع الوطني والسياسة الخارجية وبعض المعلومات المتعلقة بالتجارة، يجوز فيها للسلطة المختصة الامتناع عن تقديم معلومات في حوزتها لها قدر من السرية.
والدستور المصري شأنه شأن معظم دساتير العالم في كفالته لحرية الصحافة، لايضع ضمن معاييره اطلاقها من كل قيد او ضابط، ويترك للقانون امر تنظيمها في اطار محدد يحظر رقابتها او وقفها او الغاءها بالطريق الاداري..،وربما تكون الهواجس والمخاوف في مصرعلي حرية الصحافة والاعلام بمفهومه الواسع الذي يشمل الوسائل المرئية والمسموعة أكبر كثيرا من المخاوف علي حرية الرأي والتعبير، لان هناك اعترافا عالميا قانونيا وسياسيا بان هذه الوسائل تحقق انتشارا واسعا وتؤثر علي ملايين القراء والمشاهدين، لايمكن ان تكون مطلقة الحرية تماما دون ضوابط للاسباب التي ذكرناها انفا، فضلا عن ان الضرورات في مصر تفرض أعادة تنظيم شامل للصحافة والاعلام يضبط أداءهما من النواحي المهنية والاقتصادية، ويضمن سلامة توجههما الوطني دون ان يمس استقلالهما، خاصة ان هذه الوسائل لاتعاني في مصر ازمة حرية حقيقية لان هامش الحرية المتاح يسمح بحق الاختلاف وحق النقد والمعارضة، ويتسع لتنوع الاراء وحوارها، وان كان يفتقد بعض الضمانات المهمة التي تكرس هذه الحريات وتحصنها وتضمن استمرارها وتحول دون الانقضاض عليها، سواء من سلطة تنفيذية تريد معظم دوائرها تقليم أظافر الصحافة يقلقها هذا الحجم من هامش الحرية المتاح، اوسلطة تشريعية لاتقبل علي نحو متسامح انتقادات الصحافة والرأي العام لادائها، أخذا في الاعتبار ان الامر لن يكون سهلا وان الرأي العام المصري سوف ينحاز إلي حرية الصحافة، وان اتحادات الكتاب ونقابات الصحفيين والاعلاميين سوف تقاوم أي أفتاءات علي حرية الصحافة يتجاوز حماية حقوق آخري جديرة بالحماية وترفض تشديد العقوبات في جرائم النشر كما قاومت محاولات سابقة لتشديد العقوبة واستمرار عقوبة الحبس في قضايا الرأي.
ولا يعني ذلك ان الصحافة والاعلام المصري لايتعرضان لتهديدات خطيرة يمكن ان تؤثر علي حريتهما في ظل غياب حقيقي لامن الصحفيين،سواء في الصحف القومية التي تضم 65% من مجموع العاملين في الصحافة وتحتكر 70% من توزيع إصداراتها المختلفة، لكنها تعاني من خلل ضخم في هياكلها المالية وزحام سكاني كثيف في هيئات تحريرها يجعلها أكثر اعتمادا علي الدولة في سداد عجز موازناتها من اعتمادها علي قدراتها التمويلية التي تنكمش بسبب الركود الاقتصادي وتأثيره علي سوق الاعلان، فضلا عن زيادة تكاليف أصدار الصحف وأطلاق برامج اجهزة الاعلام بسبب تعويم الجنيه وتأثيره علي أسعارالورق ومواد الطباعة وادواتها التي يتم استيراد جميعها من الخارج، او في الصحف الخاصة التي تغبن في معظم الاحيان وباستثناءات جد محدودة حقوق الصحفيين العاملين فيها إلي حد افتقاءهم الحد الادني من الضمانات التي تكفل كرامة الصحفيين وتمكنهم من مستوي حياة معقولة، ويزيد من مشكلة أمن الصحفيين كثرة المعروض في سوق العمل عن أحتياجات الطلب ولهذه الاسباب يصبح من الضروري اعادة النظر في شروط اصدار الصحف الخاصة ليس بغرض تقييد حرياتها ولكن بهدف الحفاظ علي كرامتة وحقوق العاملين فيها!.
ونقطة البداية الصحيحة في اصلاح المؤسسات الصحفية القومية في مصر، تبدأ بمساعدة هذه المؤسسات علي سداد ديونها وتصحيح هياكلها المالية، وضبط أدائها الاقتصادي وتمكينها من الاعتماد علي ذاتها في نموها حتي يتحقق لها الاستقلال المادي، الذي يشكل اهم الضمانات لاستقلالها وحريتها..، ويدخل في هذا الاطار تحسين أحوال الصحفيين والارتقاء بقدراتهم المهنية واعتماد القدرة المهنية اساسا لاختيار قياداتها وليس الولاء أوالانتماء السياسي!..،وبالطبع فان المسار الصحيح للحكم والتزامه بالدولة المدنية القانونية واحترام حقوق الانسان وتعزيز الحريات الخاصة والعامة، وتمسكه باقامة حياة ديمقراطية صحيحة تحترم تداول السلطة وتضمن نزاهة الانتخابات وحريتها، وجميع ذلك يشكل عوامل مهمة تعزز مناخ حرية الرأي والصحافة والاعلام، لان الامور في المجتمعات الديمقراطية يحكمها ما يحكم مسار المياه في الاواني المستطرقة،تتشابك وتتماثل ويتأثر بعضها ببعض وتتوافق نتائجها سلبا وايجابا.
وبقدر ما ينبغي حماية حرية الصحافة من عسف السلطة التنفيذية وسوء استخدام السلطة التشريعية لحقها في سن القوانين التي تقيد الحق المطلق لحرية الصحافة حماية لحقوق أخري ينبغي احترامها، يصبح من الضروري حماية حرية الصحافة وأخلاقياتها من ممارسات صحفية تصدر عن صحفيين تخرج عن شرف المهنة واصولها الحرفية،تخلط بين حق الاختلاف والنقد و المعارضة ودعاوي التحريض الديماجوجي لصالح ايديولوجيات دينية وحزبية وسياسية تصدر منشورات لاصحفا، وتسئ استخدام حرية الكلمة في صور عديدة من الابتزازتستهدف تحقيق مصالح خاصة،أوترتضي ان تكون قوة تحريض لمصالح غير وطنية، وذلك من خلال التطبيق القانوني الصارم لمواثيق الشرف الصحفية والاعلامية التي تصدر طوعا من نقابات واتحادات الصحفيين والكتاب والاعلاميين وتصادق عليها جمعياتهم العمومية.
المصدر : جريدة الأهرام