مكرم محمد أحمد
هل يمكن للمبادرة الفرنسية، التى شهدنا أول فصولها فى اجتماع وزراء خارجية 29 دولة فى باريس الأسبوع الماضى تمهيداً لقمة سلام يحضرها الإسرائيليون والفلسطينيون قبل نهاية هذا العام، أن تحيى عملية سلام الشرق الأوسط التى تكاد تلفظ أنفاسها بسبب توقف عملية التفاوض بين الإسرائيليين والفلسطينيين، نتيجة استمرار إسرائيل فى بناء خططها الاستيطانية فى الضفة والقدس، وعزوف الشريك الأمريكى عن القيام بأى دور ضاغط على إسرائيل، وتغيير أجندة اهتمام المجتمع الدولى وأولوياته التى أدت إلى تراجع القضية الفلسطينية، والانقسام العقائدى والجغرافى الذى ضرب وحدة الفلسطينيين وفصل بين الضفة وقطاع غزة، وتفاقم الصراعات العربية العربية التى تهدد بفتنة كبرى بين السنة والشيعة؟ وهل تستطيع باريس فى ظروفها الراهنة أن تكون القاطرة التى تقود موقفاً أوروبياً فاعلاً يكسر احتكار الولايات المتحدة لعملية سلام الشرق الأوسط، ويشكل عنصراً ضاغطاً على الأمريكيين يلزمهم بعض الحيدة والموضوعية، خاصة أن الأمن الأوروبى يكاد يكون مرتبطاً على نحو عضوى بسلام الشرق الأوسط واستقراره، لا يفصلهما سوى البحر الأبيض الذى يكاد يكون بحيرة مغلقة يمكن لقارب مطاطى أن يعبرها فى غضون ساعات، أم أن أوروبا لا تزال عملاقاً اقتصادياً يقوم على ساقين من فخار يصعب أن تخرج من طوع القيادة الأمريكية وإرادتها؟ وهل يملك العرب قدرة إلزام المجتمع الدولى احترام مصالحهم العليا والحفاظ على سلام الشرق الأوسط واستقراره، أم أن موازين القوى على أرض الواقع تجعل التحالف الأمريكى الإسرائيلى الأكثر وزناً وثقلاً وتأثيراً فى الموقف الدولى؟ وأخيراً هل يملك الشرق الأوسط الأهمية الاستراتيجية ذاتها التى كان يملكها فى العقود الثلاثة الأخيرة، بما يجعل الحفاظ على أمنه واستقراره مصلحة دولية وعالمية يتشارك فيها المجتمع الدولى، أم أن بدائل الطاقة الحرارية التى هبطت بأسعارالبترول إلى حدها الأدنى وهددت الاستقرار المالى لكافة الدول المصدرة للبترول قللت من أهمية الشرق الأوسط فى السياسة الدولية بحيث لم يعد له ذات الأولوية القديمة؟ أياً كانت الأسئلة وهى كثيرة وأغلبها صادم ومقلق، فسوف يظل الشرق الأوسط واحداً من أهم مراكز التأثير الاستراتيجى فى العالم لمخزونه الضخم من الطاقة، ولموقعه الاستراتيجى على مفترق طرق التجارة الدولية، ولكثرة ممراته ومضايقه ومنافذه البحرية والبرية وتأثيرها الضخم على لوجستيات العالم، ولأن هذه المنطقة الحيوية لا تزال تتفجر بنشاط إنسانى ضخم له أثره المهم على مستقبل الأمن والسلام العالميين، وقد يكون مفيداً أن نورد هنا بعض الحقائق التاريخية والاستراتيجية تنشيطاً للذاكرة.
أولاً: يبلغ عمر الاحتلال الإسرائيلى للضفة والجولان 50 عاماً، ويواصل الفلسطينيون والإسرائيليون تفاوضهم المباشر لأكثر من 20 عاماً دون جدوى، والفلسطينيون هم الشعب الوحيد فى العالم الذى لا يزال يعانى قهر الاحتلال بعد أن تحررت كل شعوب الدنيا، رغم أن الفلسطينيين يطالبون بدولة منزوعة السلاح تقوم على خُمس المساحة التاريخية لأرض فلسطين، مقابل الاعتراف بإسرائيل وإنهاء كل أوجه الصراع العربى الإسرائيلى، لكن الإسرائيليين يراوغون ويرفضون أملاً فى ضم الضفة والقدس والجولان إلى إسرائيل، ويرفعون سقف مطالبهم بإضافة شرط جديد يطالب الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية!
ثانياً: فى إطار البحث عن تسوية سياسية عادلة بعد أربع حروب إسرائيلية لم تحقق لأى من الطرفين العربى أو الإسرائيلى كسر إرادة الطرف الآخر، قدم العرب مبادرة سلام جماعية أعلنتها السعودية، تقبل الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها مقابل انسحاب إسرائيل من الأرض المحتلة وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وبرغم القبول الدولى الواسع للمبادرة العربية واعتبارها حجر الزاوية التى يمكن أن ينهض عليها سلام دائم وشامل، لا تزال إسرائيل ترفض المبادرة العربية وتطالب بتعديلها بما يلزم العرب تقديم اعتراف مسبق بدولة إسرائيل، لكن العرب مع إبقائهم على المبادرة على مائدة التفاوض يرفضون إضافة أى شروط جديدة.
ثالثاً: رغم وجود محطات مهمة على طريق التفاوض الفلسطينى الإسرائيلى، مدريد، أوسلو، المصافحة التاريخية بين عرفات ورابين سبتمبر1993، كامب ديفيد الثانى، اغتيال عرفات، تعرية أبومازن، لا تزال قضايا القدس والمستوطنات والحدود والمياه دون تسوية أو حل، بما يعنى أن التقدم جد محدود وضئيل على امتداد عشرين عاماً من التفاوض رغم احتكار واشنطن لعملية السلام، بما يؤكد حرص الإدارة الأمريكية على إدارة الصراع وليس تسويته أو حله!
رابعاً: يرفض الأمريكيون ممارسة أى ضغوط على الإسرائيليين بدعوى ضرورة توافر إرادة الجانبين، الفلسطينى والإسرائيلى على إنجاز التسوية، دون اعتبار للخلل المخيف فى توازن القوى بين الجانبين، الذى يكاد يجعل الجانب الفلسطينى خالى الوفاض من أى أوراق قوة أو ضغط على إسرائيل.
خامساً: فى محاولة لدفع عملية السلام وتأكيداً على انحياز مصر النهائى لمشروع التسوية السلمية ورفضها العودة لخيار الحرب، حث الرئيس عبدالفتاح السيسى كافة القوى السياسية فى إسرائيل على توحيد مواقفها من القضية الفلسطينية واغتنام الفرصة الراهنة التى تجعل من المبادرة العربية أساساً لسلام دائم وعادل وشامل.
وبدلاً من أن يتجاوب رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو مع مبادرة الرئيس السيسى، ويسعى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية مع حزب العمل المعارض، تخوض المفاوضات المقبلة مع الفلسطينيين والعرب بهدف إنهاء كل أوجه الصراع، آثر نتنياهو أن يضم إلى حكومته أكثر المجموعات الإسرائيلية تشدداً وتخلفاً (إسرائيل بيتنا) الذى يترأسه أفيدور ليبرمان الذى عينه نتنياهو وزيراً للدفاع الإسرائيلى، بما يؤكد رفضه لأى جهود لإقامة سلام عادل ودائم وشامل. والواضح أن الموقف الإسرائيلى لا يزال يراهن على موقف أمريكى ينحاز لإسرائيل ويرفض أن يكون للأوروبيين دور فى عملية سلام الشرق الأوسط، بحجة مسئولية الطرفين الأساسيين الإسرائيلى والفلسطينى عن إقرار شروط السلام دون أى تدخل خارجى، كما يرفض ممارسة أى ضغوط تردع إسرائيل عن طلب المزيد من الشروط، حيث تطالب الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، كما تطالب العرب بالاعتراف المسبق بإسرائيل، ويزيد الوضع سوءاً أن إدارة أوباما تخوض فترة انتخابات رئاسية تجعلها مثل البطة العرجاء لا تستطيع أن تؤثر على أى من أطراف عملية السلام خاصة إسرائيل، والأكثر خطورة من ذلك أن إدارة أوباما لا تتمتع بأى مصداقية بين الأطراف العربية تمكنها من معاودة جهود التسوية فى هذه الظروف القلقة، وإذا صح أن فرنسا عازمة على إعلان تأييدها لفلسطين دولة مستقلة داخل الأمم المتحدة إذا تمسك صقور إسرائيل بمواقفهم الراهنة، وساند العرب جميعاً الموقف الفرنسى بحيث يتشكل موقف دولى جديد يضع إسرائيل أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تقبل إسرائيل بسلام شامل وعادل يقوم على حل الدولتين من خلال تفاوض مباشر يحكمه سقف زمنى، أو تصر على الرفض ليصبح الخيار المتاح الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة فى إطار الأمم المتحدة، ولأن كلاً من الخيارين يجابه مصاعب عديدة، يحسن انتظار نتائج المؤتمر الدولى الذى يعقد فى فرنسا قبل نهاية هذا العام ويحضره كل من إسرائيل والفلسطينيين.