مكرم محمد أحمد
بعد نهاية ثمانية شهور من فشل اتفاق وقف أطلاق النار فى سوريا، وبعد ماراثون طويل من المفاوضات الشاقة بين وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيرى ووزير خارجية روسيا سيرجى لافروف التى تواصلت على امتداد هذه الشهور فى موسكو وبكين وجنيف كان آخرها مساء الجمعة الماضية، حيث تواصلت جلسة المباحثات الأخيرة بين الوزيرين لأكثر من 13 ساعة إضافة إلى خمس ساعات آخرى انشغل فيها الوزيران بالعودة إلى عواصمهما قبل أن يعلنا فى مؤتمر صحفى البنود الأساسية لاتفاق مشترك على وقف إطلاق النار فى جميع أنحاء سوريا بما فى ذلك مدينة حلب ابتداء من يوم الاثنين أول أيام عيد الأضحى، فى هدنة حدها الزمنى الأدنى أسبوع، يتم خلاله تمرير قوافل الإغاثة إلى جميع المناطق المنكوبة خاصة فى مدينة حلب المحاصرة، التى يعيش داخل أسوارها ما يقرب من 250 ألف نسمة يعانون من نقص المياه والغذاء والدواء.
كما يُلزم الاتفاق موسكو بضمان وقف تحليق سلاح الطيران السورى فوق مناطق المدنيين ومواقع المعارضة السورية، كشرط ملزم يسبق فتح الأبواب لتعاون روسى أمريكى مشترك على قصف مواقع جبهة النصرة التى غيرت اسمها أخيراً لكنها لا تزال من وجهة نظر العاصمتين (موسكو وواشنطن) منظمة إرهابية تتبع تنظيم القاعدة، كما يساعد الاتفاق على إحياء عملية السلام بحيث يستأنف ممثلو الحكم السورى والمعارضة مباحثاتهم السياسية فى جنيف تحت إشراف المبعوث الأممى دى مايستورا لمدة ستة أشهر على أمل إنهاء الحرب الأهلية السورية، وبدء مرحلة انتقالية جديدة لا تطول أكثر من 18 شهراً، تنتهى بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة تحت إشراف دولى.
ومع الأسف خرقت الحكومة السورية كما خرقت المعارضة الاتفاق بعد إعلانه بساعات فى منطقتى حلب وإدلب، حيث اشتبك الجانبان فى معارك شديدة اعتبرها المراقبون نوعاً من استعراض القوة يستبق وقف إطلاق النار. وبرغم اعتراف الروس والأمريكيين بأوجه قصور عديدة فى الاتفاق الجديد الذى لا ينهض على الثقة المتبادلة بين الجانبين، ولا يتضمن آلية واضحة تلزم الأطراف المتصارعة تنفيذ قراراته، كما أن جزءاً مهماً من بنود الاتفاق لا تزال سرية، تتضمنها خمس وثائق تحدد تفاصيل عمليات وقف إطلاق النار والمراقبة، برغم كل هذه المصاعب فإن وقف إطلاق النار فى سوريا وإحياء الهدنة من جديد يمثلان فرصة أمل ونافذة جديدة تفتح على إمكان إنهاء الحرب الأهلية السورية التى راح ضحيتها ما يزيد على 400 ألف قتيل وأدت إلى هجرة سبعة ملايين سورى خارج ديارهم وتسببت فى تدمير معظم المدن السورية وكشفت عن كارثة إنسانية هى الأضخم فى القرن الحادى والعشرين زادت من معاناة الشعب السورى الذى تقترب حياته من الجحيم.
وتكشف تصريحات الجانبين الروسى والأمريكى أن خطوط الأساس للاتفاق تم الاتفاق عليها بين الجانبين قبل عدة أسابيع، وأن الصيغة الأخيرة بحثها الرئيسان أوباما وبوتين فى لقاء مشترك عقد على هامش قمة العشرين فى الصين، وإن بقيت بعض التفاصيل الفنية الدقيقة التى تطلبت موافقة خبراء الجيش والمخابرات فى الجانبين وظلت موضع المساومة حتى اللحظة الأخيرة، خاصة أنها تتعلق برسم خريطة مشتركة تبين مواقع قوات المعارضة السورية وحدود التماس المشترك بينها وبين قوات جبهة النصرة، وكيفية التمييز والفصل بينهما، لأن موسكو تصر على أن التمييز بين مواقع المعارضة السورية التى تساندها أمريكا ومواقع جبهة النصرة التى اتفق الطرفان على اعتبارها منظمة إرهابية يدخل ضمن مسئولية واشنطن، فى حين يدخل ضمن مسئولية موسكو ضمان التزام قوات بشار الأسد وسلاحه الجوى وحكومة طهران بوقف إطلاق النار، فى ظل وجود قوات إيرانية تتبع الحرس الثورى الإيرانى يقودها الجنرال قاسم سليمانى قائد الحرس الثورى الإيرانى إضافة إلى مقاتلين من حزب الله اللبنانى، كما يدخل ضمن بنود الاتفاق السرية إقامة نقاط مراقبة تسمح بمرور قوافل الإغاثة على طريق الكاستيللو، الطريق الرئيسى الذى يربط بين حلب والحدود التركية وتمر عليه جميع الإمدادات إلى المدينة المحاصرة، وتصر واشنطن على أن يبقى طريقاً مدنياً لا تقترب منه أسلحة الجيش السورى الثقيلة لمسافة ميل على الأقل، ضماناً لوصول مواد الإغاثة إلى المناطق المنكوبة.
وقد جاء وصول الجانبين إلى الاتفاق بعد منتصف ليلة الجمعة الماضية مفاجأة للجميع فى ظل الاعتقاد الذى سيطر على المراقبين بأن الروس يضيعون الوقت، لأنهم يريدون تأخير توقيع الاتفاق إلى ما بعد وجود إدارة أمريكية جديدة بعد أربعة أشهر، خاصة أن الروس والسوريين نجحوا فى إغلاق ثغرة الحصار حول مدينة حلب التى فتحها المتمردون فى منطقة الراموسة قبل أسابيع، وأعادوا إحكام حصارهم للمدينة، كما عاودوا قصف الجزء الشرقى منها بقنابل البراميل ويستعدون لعملية عسكرية كبرى تنهض بها قوات الحرس الثورى الإيرانى وحزب الله لاقتلاع بقايا قوات المعارضة من النصف الشرقى لمدينة حلب.
ويبقى السؤال المهم: هل يصمد الاتفاق ويستمر وقف إطلاق النار لسبعة أيام متصلة تمثل الشرط الأساسى لضمان استمرار تنفيذ الاتفاق ودخول مرحلة التفاوض السياسى، فى غيبة ضمانات واضحة وغياب آلية محددة لتنفيذ بنود الاتفاق، وفى ظل كثرة الأطراف الضالعة فى الحرب الأهلية السورية، فضلاً عن أن المباحثات بين الوزيرين الأمريكى والروسى لم تقف عند حدود الأزمة السورية، ولكنها شملت جبهة عريضة من المشاكل الدولية بينها القضية الأوكرانية وسلوك كوريا الشمالية التى لا تزال تطلق صواريخها البلاستيكية المتوسطة والبعيدة المدى على بحر اليابان.
الروس يعتقدون أن نجاح تنفيذ الاتفاق رغم غياب ضمانات التنفيذ يتوقف بالفعل على مدى قيام كل من واشنطن وموسكو بمسئولياتهما واستعدادهما المشترك لخلق مناخ جديد يساعد على تسوية هذا النزاع الصعب رغم وجود أطراف يهمها تخريب الاتفاق سواء داخل جماعات جبهة النصرة أو داخل المعارضة السورية المتحالفة معها التى تعتقد أن قبول واشنطن الاشتراك مع روسيا فى عمليات القصف الجوى لمواقع جبهة النصرة يمثل تنازلاً خطيراً من جانب أمريكا لصالح الروس، وما من شك أن موقف المملكة السعودية من الاتفاق يمثل حجر الزاوية لأن المملكة هى التى تساعد جبهة النصرة وتمدها بالأسلحة والمؤن.. وفى ظل هذه المتغيرات ربما يكون من الصعوبة بمكان التنبؤ بمستقبل اتفاق الهدنة، لكن ما من شك أن الاتفاق يمكن أن يلقى فرصاً أحسن فى التطبيق إذا ما حسنت نيات موسكو وواشنطن، وتحملا المسئولية الملقاة على عاتقهما إزاء كارثة إنسانية ضخمة تقلق المجتمع الدولى بعد أن وصلت معاناة الشعب السورى إلى هذا الحد المفزع.
وإذا كان صحيحاً ما يقوله وزير الخارجية الأمريكية من أن الاتفاق يمثل نقطة تحول مهمة ولحظة تغيير استراتيجى ينبغى على كل الأطراف التمسك بها، خاصة أن الواضح من الموقفين الأمريكى والروسى أن قضية بقاء بشار الأسد فى السلطة لم تعد العقبة الكؤود التى تحول دون إنهاء الحرب الأهلية السورية بعد أن توافقت كل الأطراف على بقائه خلال المرحلة الانتقالية (18 شهراً) إلى أن تجرى الانتخابات البرلمانية والرئاسية الجديدة.. ومع الأسف فإن المتضرر الوحيد من عدم تنفيذ الاتفاق هو الشعب السورى الذى لا يستحق كل هذه المعاناة والتدمير والتخريب الذى لحق ببلاده، كما أن الجامعة العربية لا تزال بعيدة عن المشهد السورى لغياب موقف عربى واحد من القضية رغم بيان الخارجية المصرية الذى يساند الاتفاق ويطالب بضمانات تنفيذه، ويؤكد على ضرورة الحفاظ على وحدة الدولة والتراب السورى ووقف معاناة الشعب السورى ونزع أسلحة الميليشيات العسكرية.