مكرم محمد أحمد
وكأن استنزاف دماء المصريين على مدار الساعة واليوم والأسبوع فى جرائم جماعة الإخوان، وخروج مواكب الحزن تودع كل يوم شهداء جدداً، لم يعد يكفى كى يتجرع المصريون الحسرة والحزن على الأحوال التى آلت إليها البلاد، وتقع فاجعة أسوان الدامية ويلقى 28 مصرياً مصرعهم فى اقتتال أهلى بغيض، شمل قبيلتى الدابودية التى تنتمى إلى كنوز النوبة، والهلالية التى تنتمى إلى قبائل الصعيد العربية الأصل، أعاد مصر، التى عرفت الدولة منذ أربعة آلاف سنة وتوحدت أعراقها فى دولة موحدة قبل كتابة التاريخ، إلى العصر الحجرى! بشاعة الجرائم التى ارتكبها الطرفان بعد أن استحل المسلم دماء أخيه المسلم، يرديه قتيلاً بالرصاص أو يذبحه ذبح الشاة على نواصى القرى والكفور، لأسباب عبيطة وغبية ملأت قلوب الطرفيين غلاً لا يرحم، وجعلتنا نرى صوراً بشعة لم تخطر أبداً على ذاكرة المصريين لعشرات الجثث الغارقة فى دمائها، ملقاة فى الشوارع أو مكومة فوق عربة كارو لا يستطيع أحد الاقتراب منها، أسر بأكملها أبيدت عن آخرها، الأب والابن والزوجة والأحفاد، وتم التمثيل بجثثهم وكأننا إزاء عملية تطهير عرقى لم نرَ لها مثيلاً فى تاريخ البلاد!
وبرغم هرولة رئيس الوزراء ومعاونيه تعذّر على الدولة المصرية حصار حرب لم يبرد بعد رمادها، تهدد كل لحظة باشتعال جديد، بعد أن تحول الثأر إلى وحش ضخم من الكراهية يقتحم بيوت الطرفين يريد المزيد من الدماء! ولأن الجريمة البالغة الوحشية وقعت على أرض أسوان الطيبة والوديعة بين قبائل نوبية وقبائل عربية تجاورت منذ خمسة عقود فى هذا المكان، يفتش الجميع عن طرف ثالث يحملونه وزر الكارثة فلا يجدون سوى جماعة الإخوان المسلمين، رغم حالة التوتر والغضب والتربص المتبادلة التى عاشتها المنطقة أياماً قبل أن يندلع القتال لأتفه الأسباب!
ولأن السلطة فى واد والناس تعيش فى واد آخر، عجزت قرون استشعارها أن تحس بالخطر، ولم تتمكن بسبب بطء ردود فعلها من حصار الكارثة التى تصاعدت إلى ذروتها فى اليوم الرابع من اندلاع الشرارة الأولى، لتصبح إعصاراً شريراً يحصد أرواح الجانبين فى حرب شوارع مجنونة، فرضت إغلاق كل مدارس المنطقة، وألزمت الجامعة وقف أعمال الدراسة، وأملت على الشرطة والأمن تعزيز قواتها انتظاراً لتجدد المأساة! وتسببت فى تعطيل مصالح الناس ووقف الحال، لأن الطرفين لا يقبلان بالصلح الآن رغم الهدنة القصيرة التى قبلها الجانبان اضطراراً بعد أن رفضا مناقشة شروط الصلح وإمكاناته!
لماذا حدث ما حدث؟! وهل يعود الأمر كله لقصور فى أداء المحافظ ومدير أمن الإقليم، اللذين لم ينجحا فى حصار الكارثة أو محاولة منعها، ولم يبذلا جهداً مشتركاً لإطفاء الحريق رغم تصاعد الدخان فوق سماء محافظة أسوان، وترك الاثنان الأمور تتردى إلى أن بلغت حجم الكارثة! أم أن المشكلة أبعد عمقاً من تقصير المحافظ ومدير الأمن؟! وكما هى العادة تعددت الاجتهادات بعد وقوع الكارثة، تشرح وتبرر وتنتقد وتطالب بلبن العصفور! لأن المشكلة فى رؤية البعض تكمن فى زيادة حدة الفقر فى مناطق وصلت فيها نسبة المهمشين الذين لا يحصلون على حد الكفاف إلى 45% من السكان يعانون من قلة الدخول بسبب وقف الحال وانقطاع السياحة، وما لم تتحقق التنمية الشاملة فوراً فسوف ينفجر المجتمع على نفسه مرة أخرى فى مشكلات مماثلة!
وإن كان هناك آخرون يرون أن أبعاد المشكلة تعود إلى فترة الانفتاح الاقتصادى التى أهدرت قيم المجتمع المصرى وضيعت الكثير من الفضائل والخصال القديمة، وغيرت ضمن ما غيرت طبائع الناس وأحوالهم بمن فى ذلك أهل النوبة، الذين لم يُعرف عنهم من قبل لجوءهم إلى العنف وحمل السلاح، لكنهم تعرضوا خلال السنوات الأربعين الأخيرة بعد تهجيرهم من بلادهم الأصلية فى مشروع السد العالى إلى تأثيرات جديدة داخلية وخارجية، شكلت معظم توجهات أجيالهم الجديدة التى تطالب بالعودة إلى أرض الأجداد، والحفاظ على الهوية النوبية وشخصيتها الثقافية، وربما يأخذ الشطط بعضهم إلى حد التفكير فى دولة النوبة المستقلة التى تقوم على شاطئ النيل فى تلك المساحة بين أسوان والسودان، ويسكنها شعب متجانس له خصائص واحدة، رغم انقسامهم اللغوى إلى فاديجا فى الجنوب وكنوز فى الشمال، كل يتكلم لغته الخاصة!
ومع ضرورة الاعتراف بأصالة هذه المشكلات وحاجتها الملحة إلى المعالجة فى المدى الزمنى المتوسط والبعيد، فى إطار رؤية جديدة تمليها بنود الدستور الجديد تحترم حقوق المواطنة وترفض التمييز بين المواطنين بسبب الجنس أو اللون أو الدين، فإن اعتراف الجميع بأن ما حدث لم يكن قدراً محتوماً يصعب تجنبه أو الإفلات منه، وإن بعض اليقظة من جانب الإدارة ربما كان كفيلاً بمنع وقوع الكارثة أو حصارها على نحو يقلل من خسائرها، وإننا فى الحقيقة إزاء قضية إهمال جسيم ينبغى أن يساءل عنها المحافظ ومدير الأمن قبل إعفائهما من مسئولياتهما كى لا يتكرر ما حدث مرة أخرى، لأن علاج الأسباب المباشرة لا يقل أهمية عن علاج جذور المشكلات وأسبابها العميقة، وفى كثير من الأحيان يصبح علاج الأسباب المباشرة المدخل الصحيح لعلاج جذور هذه المشكلات.. وأظن أن من أخطر الأسباب المباشرة لما حدث فى أسوان أن الدولة المصرية لم تزل غائبة رغم وجود رئيس انتقالى محترم، ورغم وجود حكومة جديدة توجد فى مواقع المشكلات، لأن الدولة تضعف وتغيب عندما تبرد أو تموت قرونها الاستشعارية وتتوقف عن أن تعرف أو تتابع! ولا تقدر على التنبؤ بالحوادث الجسيمة قبل وقوعها! وتظل تحبس نفسها فى نطاق ردود الفعل دون أن تنجح فى الإمساك بزمام المبادرة! لأن أجهزة إنذارها المبكر لا تعمل بالكفاءة المطلوبة! ولأن أجهزة معلوماتها تعجز عن أن تصل إلى عمق الحقيقة!.. وكذلك تضعف الدولة وتغيب قدرتها على الفعل متى غابت قدرتها على الردع، وقبلت بتقليم أظافرها، وأدمنت التباطؤ فى اتخاذ القرار، وتلكأت فى تنفيذ حكم القانون، ووضعت فى اعتبارها ردود فعل الخارج بأكثر من أن تستجيب لأصوات الداخل، ولم تنتبه لضرورة تحصين جبهتها الداخلية من مخاطر النكوص والإحباط، وعندما تضعف الدولة وتغيب تتنامى العشائرية وتنتعش القبلية وغيرها من الانتماءات الطائفية على حساب وحدة الوطن، والأخطر من ذلك أنه فى غيبة قدرة الدولة على ضبط النظام العام، تكثر عصابات المغامرين وقطاع الطرق وسماسرة العنف، وينتشر السلاح على هذا النحو المخيف، خاصة عندما يتوقف الحال وتغيب مصادر الرزق الحلال، وتصبح الجريمة وبيع السلاح وانتشار تجارة المخدرات هى مصادر الرزق المتاحة التى تحول دون مذلة الجوع!
وقد يكون هناك من يعتقد أن الدولة القوية سوف تكون الناتج الطبيعى للوفاء باستحقاقات انتخابات الرئاسة، لأننا سوف نكون إزاء دولة جديدة يحكمها رئيس منتخب، تدعمه أغلبية واسعة من الشعب، ولكن ما لا ينبغى أن ننساه أبداً، ومن الضرورى أن يكون جزءاً من وعى كل مواطن، أن جماعة الإخوان لن تستسلم بسهولة، ولن تتوقف عن أعمال العنف بعد انتخاب الرئيس الجديد، لأنها تعرف جيداً استحالة أن تكون جزءاً من المشهد السياسى المصرى فى الأمد المنظور، وليس أمامها من خيار آخر سوى أن تستمر فى أعمال العنف والإرهاب، وتواصل تصعيدهما على أمل تقويض الدولة.. والواضح من المشهد على أرض الواقع أن جماعة الإخوان وحلفاءها من جماعات القاعدة والسلفية الجهادية لا يزالون قادرين على ارتكاب جرائم العنف فى غيبة نهوض الدولة وحضورها، ولا تزال جماعة الإخوان تعتقد أن تخريب الجامعات المصرية يمثل خط المواجهة الأول مع الحكم الذى يمكن أن يقوض الاستقرار والأمن وينشر الإحباط بين صفوف الشعب، ولا تزال جماعة الإخوان تجد من يدافع عنها فى الخارج ويعتبرها ضحية انقلاب عسكرى، ويغلق عينيه عن كل الجرائم التى ترتكبها على مدار الساعة واليوم والأسبوع، وما من بديل أمام الدولة المصرية سوى أن تنهض وتستعيد حضورها، بحيث يملأ حضورها كل الساحة، وتزداد قدرتها على إلحاق هزيمة منكرة بجماعة الإخوان تلزمها وقف أعمال العنف والإرهاب، وفض تحالفاتها مع تنظيمات القاعدة والسلفية الجهادية، وتدفعها إلى ضرورة مراجعة أفكارها ومناهجها، بحيث يجد الغرب والأمريكيين أنفسهم أمام حقائق جديدة على أرض الواقع، تُلزمهم الاعتراف بحق المصريين فى أن يرفضوا حكم الجماعة ويختاروا نظام الحكم الذى يريدونه، ويحققوا لوطنهم الأمن والاستقرار.
نقلاً عن "الوطن"