بهبوط مركبة الفضاء الصينية تشانج اى 4 على الجانب البعيد المُظلم من سطح القمر قبل عدة أيام، تحاول الصين حثيثاً اللحاق بكل من روسيا والولايات المتحدة فى مجال الفضاء لتصبح قوة فضائية رئيسية بحلول عام 2030, فى إطار برنامج صارم فى تنفيذه يستهدف فى مرحلته الثالثة بناء معمل فضائى دائم, يحكمه نظام هندسى فضائي, يسمح بسفر رواد الفضاء والعلماء ذهابا وعودة بين الأرض ومحطة الفضاء الصينية لإجراء تجارب علمية بانتظام على نطاق واسع, يمكن الصين من إرساء قواعد الاستغلال السلمى للفضاء واستثمار الموارد الفضائية، وقد أنجزت الصين بنجاح بالغ المرحلتين الأولى والثانية من برنامجها المتكامل للفضاء فى إطار عملية الإصلاح والانفتاح التى بدأتها قبل أربعين عاما, بعد أن أطلق الزعيم الصينى دنج شياو بينج عملية الإصلاح لتصبح الصين بعد أربعة عقود من التطور السريع رائدة فى كل المجالات، تحظى إنجازاتها فى ميادين عديدة بإشادة عالمية واسعة باعتبارها معجزات للتاريخ الإنساني.
ولا يزال العالم يذكر كيف نجحت الصين فى انتشال 700 مليون صينى من الفقر والجوع رغم تقديرات مؤتمرات الغذاء العالمى على امتداد عقود طويلة بأنه من المستحيل تحقيق هذا الهدف، لكن إرادة الصين كانت أقوى من كل التكهنات الغربية وتحققت المعجزة بالفعل, ليس من خلال عمل سحرى يشكل معجزة غيبية، ولكن من خلال معدلات تنمية عالية ومستمرة ركزت على هدفين أساسيين هما إصلاح الطريق والبناء, وقد اعتمدت الصين فى فلسفتها الجديدة مبدأ الطريق أولا, وانطلقت فى الإصلاح تشق الطرق وتقيم الجسور وتطور وسائل النقل وأدواته وتمد العمران إلى المناطق الجديدة، وتضع مصلحة الاقتصاد الوطنى فوق كل الاعتبارات والمصالح بما فى ذلك اعتبارات السياسة, والأمر المؤكد أن الصين التى ركزت على قضية الطريق أولا فى معالجة قضية الفقر فى الداخل اعتمدت المبدأ نفسه فى مشروعها الكوكبى خارج الصين الحزام والطريق حيث شقت الصين ومن موازنتها العديد من الطرق البحرية والموانى والمطارات والسكك الحديدية فى عدد من دول العالم لاعتقادها الراسخ بأنه عندما يوجد طريق فإن الإنسان لن يقف عاجزا، ولكنه سوف يكمل مسيرة البناء والعطاء, وربما لهذا السبب ذاته جاءت المبادرة الصينية «طريق واحد وحزام واحد» كمحور أساسى لتنمية الحركة الاقتصادية فى كل من آسيا ودول المحيط الهادي، وأظن أنها نفس الفلسفة وراء المشروع الصينى الضخم طريق الحرير الذى يستهدف إعادة الطريق التجارى بين الصين ودول الشرق الأوسط ليمر بذات المناطق التى كانت تمر بها تجارة الحرير قديما، ولا يزال طريق الحديدة صنعاء الذى يصل داخل اليمن بساحل الحديدة على البحر الاحمر الذى بنته الصين فى عهد الإمامة يشكل أبرز معلم حضارى فى اليمن، ولولا هذا الطريق لما تحققت وحدة اليمن ولما تمكنت القوات المصرية من إنقاذ ثورة اليمن، ودون هذا الطريق كان يمكن لليمن أن يظل أسيرا للعصور الوسطي، لا يعرف معنى التطور. وثمة من يعتقدون أن مبادرة الصين «طريق واحد وحزام واحد» لإدارة الحركة الاقتصادية فى كل من آسيا ودول المحيط الهادى أكثر فاعلية وقبولاً من اتفاقات التجارة الحرة التى تروج لها الولايات المتحدة، ويستدلون على ذلك بإعلان 70 دولة عزمهم على المشاركة فيها دون أى تردد، لأن المشاركة فيها سهلة لا تتضمن أى تعقيدات أوشروط مُسبقة، وكما أن المشاركة فى المبادرة تعنى تطوير موانى الدول وبنيتها التحتية واللوجستية بما يعود بالنفع على الجميع وبينهم الصين.
وربما تكون الصين خلال العقود الأربعة الأخيرة قد تنازلت عن عدد من المبادئ الأساسية للشيوعية واستخدمت الكثير من أساليب الرأسمالية، بما يؤكد أن الحواجز العقائدية والأيديولوجية لم تعد مسوغاً لتبرير عدم تعاون الدول اقتصادياً, خاصة أن الصين حققت خلال هذه العقود تطوراً اقتصادياً وتكنولوجيا هائلا, مكنها ليس فقط من القضاء على مشكلات الفقر التى كان يعانيها 700 مليون صينى على الأقل، ولكن من تحقيق إنجازات ضخمة جعل اقتصادها الأقوى والأكثر تقدما ونموا فى العالم، كما مكنها من أن تسبق الجميع فى عديد من مجالات التكنولوجيا المتقدمة، وتملك الصين الآن أكثر الشركات العالمية تطورا فى تكنولوجيا المعلومات، صحيح أن الأمريكيين يتهمونها بأنها سرقت الملكية الفكرية للعديد من إنجازات التكنولوجيا الغربية لأنها كانت تفرض على الجميع ضرورة الإفصاح عن التكنولوجيات الجديدة لمعظم السلع قبل أن تسمح بدخولها إلى أسواق الصين الواسعة، لكن الأمر المؤكد أن الصين قد طورت تكنولوجياتها الخاصة بما مكنها من التفوق على الجميع وصدارة العالم فى العديد من أساليب الإنتاج، وثمة تقرير مهم صدر فى وقت سابق من هذا الشهر عن المركز الأكاديمى للممارسات والأفكار الاقتصادية الصينية الذى يتبع جامعة تسينغهوا فى بكين يؤكد, أن النمو الذى حدث فى الصين على مدى العقود الأربعة الماضية كان مدفوعا أساسا بدخول شركات جديدة بدلا من إعادة هيكلة الشركات القديمة, وذكرت صحيفة جلوبال تايمز الصينية أن أكثر من 10 مدارس فى مقاطعة قوتيشو جنوب غرب الصين قد تبنت الزى المدرسى الذكى الجديد بما أسهم فى زيادة معدلات الحضور وانخفاض نسب التسيب، كما أطلقت الصين حافلات ركاب متطورة تتميز بذكائها وعدم حاجتها إلى سائقين محترفين لقيادتها فى شوارع مقاطعة هونان الصينية.
وتتصدر الصين سوق الشحن السريعة فى العالم لخمس سنوات متتالية متجاوزة الكمية المتداولة فى الاقتصاديات المتطورة، بما فى ذلك الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وأكد متحدث صينى باسم قطاع الشحن، أن قطاع التوصيل السريع يدعم مبيعات سنوية من التجارة الإلكترونية تقدر بنحو 6٫9 تريليون يوان (تريليون دولار) تساوى 19% من حجم مبيعات التجزئة داخل الصين، وقد تم الإعلان عن 7 شركات توصيل سريع تحقق عائدات سنوية تجاوزت 100 مليار يوان سنويا.
ومثلما نشرت صحيفة نيويورك بوست الأمريكية، تمكن فريق بحث صينى من تحويل معدن النحاس الرخيص إلى مادة جديدة تتطابق فى تكوينها مع الذهب, وذلك باستخدام غاز الأرجون الساخن المشحون إلكترونيا, وقال العلماء المشاركون فى المشروع إن الجسيمات الثانوية النحاسية حققت أداء محفزا مشابها للغاية للذهب، وأنه بعد المعالجة يمكن أن يتحول معدن النحاس إلى ذهب، وأن هذا الاكتشاف المُذهل قام به فريق من علماء معهد الفيزياء الكيميائية فى الأكاديمية الصينية للعلوم فى لياو نينج، وسيكون مفيدا للغاية فى عالم التصنيع, حيث تم اكتشاف مادة جديدة مقاومة لدرجات الحرارة العالية والأكسدة والتآكل، ووفقا لما نقلته وكالة أنباء شينخوا فقد طورت الأكاديمية الصينية للعلوم ايضا نسخة غير قابلة للاحتراق من ورق شوان وهو نوع من الورق المصنوع يدويا عالى المرونة مع مقاومة ممتازة للحرائق وبياض عال وقوة تحمل طويلة ويستغرق إنتاجه من يومين إلى ثلاثة بدلا من عامين، بما يُمكن الرسامون والخطاطون فى الصين من الاحتفاظ بأعمالهم عُمرا طويلا. وبرغم هذا التقدم المُذهل فى تكنولوجيات الإنتاج الصينى ثمة ما يُشير إلى تراجع ملحوظ فى معدلات نمو أرباح الشركات الصينية نتيجة تراجع مستويات الطلب المحلى والخارجي، بما يؤكد تزايد المخاطر التى يتعرض لها ثانى أكبر اقتصاديات العالم، بعد ان تراجعت معدلات نمو الأرباح الصينية بنسبة 1٫8% لتصل إلى 594٫8 مليار يوان، كما تأثر الإنتاج الصناعى الصينى بصورة مباشرة، خاصة فى قطاع إنتاج السيارات الذى هبط بنسبة 3٫2% ، لكن مؤشرات مبيعات التجزئة تُشير ايضا إلى انخفاض ملحوظ فى مبيعات التجزئة التى ظلت مُرتفعة من عام 1993 وحتى عام 2018 فى حدود 14% سنويا، لكنها تراجعت الآن إلى حدود 8% وهى أقل قراءة لمبيعات التجزئة منذ عام 2003.
والواضح لكل المراقبين أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين قد أثرت بالسلب على الاقتصاد الصيني، كما أثرت بالسلب على الاقتصاد الأمريكى وعلى مُجمل الاقتصاد العالمي، وقال مصدر مسئول فى صندوق النقد الدولى أن النمو الاقتصادى العالمى يتباطأ كما أن معدلات التنمية تنمو بوتيرة أبطأ بفعل التوترات التجارية التى تصاعدت فى الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة والتى يتزايد تأثيرها الواضح على حجم الاستثمارات العالمية لان المستثمرين يعانون غياب اليقين وعدم الاستقرار وبالأخص فى آسيا، خاصة أن واشنطن وبكين فى حربهما التجارية يتبادلان فرض رسوم جمركية على سلع البلدين تجاوزت قيمتها أكثر من 300 مليار دولار خلال العام الأخير، الأمر الذى أدخل البلدين فى نزاع مرير كانت له تداعياته القاسية على الأسواق العالمية، خاصة أسواق الأسهم التى حققت خسائر غير مسبوقة بسبب إتساع المواجهة التجارية لتشمل الصين والولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية!, وقبل عدة أيام رفع الرئيس الأمريكى ترامب حالة التفاؤل بإمكان وضح حد للحرب التجارية المُشتعلة مع الصين التى ألقت بظلال مُخيفة على مستقبل الاقتصاد العالمى بعد مكالمة طويلة مع الرئيس الصينى شى جينبينج، أكد الرئيس الأمريكى بعدها امكان إحراز تقدم كبير ينهى حرب الرسوم الجمركية بين البلدين، مؤكدا أن الجانبين يسعيان إلى التوصل إلى اتفاق شامل يُغطى كل المسائل العالقة، كما أكد الرئيس الصينى ذلك التفاؤل بإعلانه أن واشنطن وبكين ترغبان فى إحراز تقدم ثابت، ويعملان على تنفيذ هُدنة الـ 90 يوما التى تم التوصل إليها بداية الشهر الحالي، ويبدو أن بكين وواشنطن غارقتان فى التفاصيل المتعلقة باتفاقهما المحتمل الذى سوف يتحقق عاجلا أم آجلا بعد أن اكتوى الجميع بنيران هذه الحرب الضروس، وبرغم ترحيب العالم بإمكان طى الخلاف بين بكين وواشنطن، إلا أن مفاوضات الجانبين تواجه مصاعب كبيرة أهمها أن الرئيس الأمريكى يسعى إلى خفض كبير فى ميزان العجز التجارى الذى يميل لمصلحة الصين بأكثر من 300 مليار دولار, ويطالب الصين بفتح أسواقها أمام السلع والشركات الأجنبية، والواضح أن الصين حريصة على إبداء حُسن نياتها ونجاح المفاوضات بعد أن فتحت أبوابها لاستيراد الأرز وفول الصويا الأمريكي، وتكاد تخلص أهم نقاط التفاوض العالقة فى قضية حقوق الملكية الفكرية, حيث تتهم واشنطن بكين بإجبار الشركات الأمريكية والغربية على الكشف عن أسرارها التكنولوجية كشرط أساسى لدخول سلعها الى السوق الصينية، ويعتزم مفاوضون تجاريون من البلدين عقد أول جولة مباحثات مباشرة بين الجانبين حول قضية الملكية الفكرية الشهر المقبل.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع