مكرم محمد أحمد
لا أعرف إن كان الأمر صدفة أم عناية، أن تنشر الخارجية الأمريكية قبل عدة أيام وثيقة سرية بالغة الأهمية تتعلق بجزيرة تيران، تحت رقم 47 من الملف العاشر للصراع العربى الإسرائيلى، تكشف الوثيقة نص برقية سرية بعث بها وزير الخارجية الأمريكى دين راسك يوم 17 يناير عام 1968، أى بعد أقل من ستة أشهر على هزيمة 67 إلى السفير الإسرائيلى فى واشنطن، يطلب فيها أن ينقل السفير فوراً نص البرقية كتابة إلى وزير الخارجية الإسرائيلى يومها أبا إيبان، فى إطار محاولات واشنطن الأولى استكشاف إمكانية أن تقوم حكومة ليفى أشكول بنوع من المبادرات السلمية تؤكد للعالم استعداد إسرائيل للدخول فى تفاهمات مع جيرانها العرب رغم استيلائها على سيناء وهضبة الجولان والقدس الشرقية.
وفى هذه البرقية يكشف وزير الخارجية الأمريكى دين راسك، أنه طلب إلى سفيره فى السعودية أن يبحث مع عاهل السعودية الملك فيصل إمكانية إعادة جزيرة تيران التى تحتلها إسرائيل إلى السعودية مباشرة، فى ضوء ما أبداه رئيس الوزراء الإسرائيلى ليفى أشكول خلال زيارته الأخيرة لواشنطن من استعداد إسرائيل الدخول فى تفاهمات مع جيرانها العرب، وأن الملك فيصل كان واضحاً فى تأكيده للسفير الأمريكى على أن جزيرة تيران أرض سعودية، وأن السعودية لا تمانع فى عودة الجزيرة إليها إذا انسحبت القوات الإسرائيلية منها، كما أن السعودية تلتزم بحرية الملاحة فى خليج العقبة ولا تنوى الإبقاء على قوات عسكرية سعودية على أرض الجزيرة!
وفى إطار هذه المبادرة حاول وزير الخارجية الأمريكى إقناع الوزير الإسرائيلى أبا إيبان بأنه ربما يكون مفيداً محاولة إقناع حكومته بتفعيل هذه المبادرة، لكن رد أبا إيبان انطوى على ثلاثة شروط صعبة أفسدت هذه الجهود، أولها أن تقدم السعودية كتابة اعترافاً بأن مضيق تيران مياه دولية، وثانيها أن تلتزم السعودية بالإبقاء على الجزيرة غير مأهولة إلى الأبد، وثالثها أن تضمن الولايات المتحدة التزام السعودية بالشرطين السابقين، ولهذه الأسباب توقفت محاولات الأمريكيين لنقل السيطرة على جزيرة تيران إلى السعودية بسبب تعسف إسرائيل، وربما يكون من المفيد أن نعيد نشر نص برقية وزير الخارجية الأمريكى دين راسك إلى وزير الخارجية الإسرائيلى أبا إيبان التى نشرتها الخارجية الأمريكية قبل عدة أيام على موقعها على شبكة المعلومات.
نص البرقية، تلغراف من وزارة الخارجية إلى سفارة إسرائيل:
إلى السفير، برجاء تسليم هذه الرسالة الشخصية كتابة من وزير الخارجية دين راسك إلى وزير الخارجية أبا إيبان:
عزيزى الوزير، كما تعلم فإن وجود القوات الإسرائيلية على أرض جزيرة تيران كان إحدى المسائل التى تمت مناقشتها خلال المفاوضات الأخيرة التى أجراها رئيس الوزراء أشكول مع الرئيس الأمريكى فى تكساس، تلك المفاوضات التى أكدت استعداد إسرائيل للوصول إلى تفاهمات مع جيرانها العرب، لقد أوضحنا لرئيس الوزراء أشكول رغبتنا فى أن تُظهر إسرائيل بعض الإشارات التى تؤكد استعدادها للوصول إلى تفاهم مع جيرانها العرب، واقترحنا أن يكون انسحابكم من جزيرة تيران واحداً من الأمثلة التى يمكن أن نفكر فيها، وقد عبّر رئيس الوزراء أشكول عن تفهمه لوجهة نظرنا، لكنه أوضح أنه سوف يكون من الصعب على الحكومة الإسرائيلية الانسحاب من تيران فى غيبة تأكيدات مهمة تتعلق بنتائج هذه العملية على إسرائيل، وقد شجعنى ذلك على أن أطلب من سفير الولايات المتحدة فى السعودية مناقشة هذه القضية بصورة أوضح مع جلالة الملك فيصل، وبالفعل عقد سفيرنا حواراً صريحاً ومفصلاً حول هذه القضية مع جلالة الملك يوم 13 يناير عام 1968، وكان الملك فيصل واضحاً فى تأكيده أولاً على أن الجزيرة جزء من أرض السعودية، وثانياً على أنه ليس لديه أى نوايا للإبقاء على أى قوات عسكرية سعودية على أرض الجزيرة متى عادت إلى السعودية، كما أنه ليس للسعودية أى رغبة أو نوايا فى استخدام الجزيرة فى عملية تعويق المرور فى خليج العقبة داخل ممر تيران.
وقد شجعنى كثيراً موقف الملك وتأكيداته لسفيرنا التى أثبتت أن المخاوف التى يراها الجانب الإسرائيلى إذا عادت الجزيرة للسعودية لن يكون لها أى وجود حقيقى إذا انسحبت إسرائيل من الجزيرة، وعلى هذا الأساس يمكن لحكومتكم أن تضع فى اعتبارها أن انسحاب قواتها من جزيرة تيران لن يسبب أى مشاكل تتعلق بحرية المرور فى خليج العقبة، وإننى أتطلع إلى أن يصلنى فى أقرب وقت استجابة مقبولة من حكومتكم، سوف نقوم بنقلها فوراً إلى الملك فيصل، الأمر الذى سوف يكون له تأثير طيب وإيجابى على موقف الملك.
انتهت برقية وزير الخارجية الأمريكى.
وما نفهمه من نص رسالة دين راسك إلى وزير الخارجية الإسرائيلى أبا إيبان، أن الولايات المتحدة حاولت أن تنهى سيطرة مصر على جزيرة تيران وتسليمها للسعودية مباشرة باعتبارها المالك الأصلى للجزيرة، فى إطار تفاهمات جديدة تشمل التزام السعودية بحرية المرور فى خليج العقبة وعدم تحويلها إلى موقع عسكرى يهدد أمن إسرائيل، وأن السعودية وافقت على العرض، وأكدت التزامها بحرية الملاحة فى المضيق، وعدم وجود أى قوات عسكرية سعودية على أرض الجزيرة، لكن أبا إيبان اشتط فى مطالب إسرائيل مؤكداً ضرورة أن توقع السعودية كتابة التزامين جديدين، أولهما أن مضيق تيران مياه دولية، وثانيهما أن تيران سوف تبقى إلى الأبد جزيرة غير مأهولة، الأمر الذى رفضته الخارجية الأمريكية لثقتها فى أن الملك فيصل سوف يرفض هذين الشرطين.
وتشرح التعليقات التى نشرتها الخارجية الأمريكية على هامش نص برقية دين راسك إلى أبا إيبان، أن الخارجية الأمريكية دخل فى اعتقادها أن إسرائيل لن تنسحب أبداً من جزيرة تيران إلا أن يتم طردها عنوة من الجزيرة.
وهكذا فشلت محاولة دين راسك رد الجزيرة إلى السعودية كجزء من تسوية الأزمة بعد هزيمة 67، لأن إسرائيل كانت قد تمكنت من كل سيناء حتى شاطئ قناة السويس، كما تمكنت من السيطرة على هضبة الجولان ودخول القدس، ووجدت نفسها فى موقف يمكنها من إملاء كافة شروطها على مصر والعرب، لأن العرب من وجهة نظرها تحولوا إلى جثة هامدة بلا حراك، وبسبب غرور إسرائيل المتزايد وسوء تفسيرها لأبعاد هزيمة 67، وغفلتها عن حساب آثار الهزيمة على نفوس المصريين وقواتهم المسلحة، جاءت حرب 73 وتكبدت إسرائيل هزيمة قاسية أجبرتها على الانسحاب من كل شبر من أرض سيناء، وإخلاء جزيرة تيران ليعاود المصريون السيطرة عليها، مع متغير جديد تمثل فى إقرارهم بحرية الملاحة فى مضيق تيران.