مكرم محمد أحمد
ما من تفسير صحيح يبرر هذا الموقف اللاأخلاقى من جانب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، فى تطاوله على مصر وهجومه الشديد على الأمم المتحدة من فوق منبر الجمعية العامة، لأنها استقبلت الرئيس المصرى بحفاوة بالغة، وهو الذى قاد الانقلاب العسكرى على الرئيس المنتخب محمد مرسى! سوى أن أردوغان فقد القدرة على التوازن، ولم يعد فى وسعه أن يسيطر على جموح مشاعره الذاتية، أو يخفى حقده البالغ على مصر والمصريين، لأنهم ضربوا طموحه فى أن يكون الخليفة العثمانى الجديد! الحلم الكاذب الذى روجته جماعة الإخوان المسلمين تشترى به مشاعر العوام، وتبيعه إلى دولتين متواطئتين تعتقدان أن صعودهما وقوة تأثيرهما فى محيطهما الإقليمى يرتبطان بإضعاف مصر، وكذلك ترشو به الولايات المتحدة فى عملية تواطؤ استراتيجى خسيس، تعطى لحماس 1750 كيلومتراً من أرض سيناء مقابل صلح شامل مع إسرائيل على حساب الأرض والأمن المصرى! توقعه جماعة الإخوان المسلمين بعد أن أصبحت فى سدة الحكم تملك سلطة القرار فى الشأن المصرى، وتوزع الأرض المصرية على الأحباب الإخوان فى غزة والسودان، لأن الوطن فى مفهوم الجماعة مجرد حالة عابرة والأصل والجذر هو الخلافة التركية!
وذلك ليس مجرد تحليل سياسى يمكن أن يخطئ أو يصيب، لكنها مؤامرة موثقة فى تقارير رسمية لأجهزة المعلومات الأمريكية عنوانها (الحل البديل لفشل قيام دولة فلسطينية إلى جوار دولة إسرائيل)، تركز على الدور التركى الذى يمكن أن يكون مثالاً لحكم إسلامى معتدل يتسم بالحداثة والعصرية، لا يجد غضاضة فى أن يكون جزءاً من تحالف الأطلنطى أو يرتبط بمعاهدة صداقة مع إسرائيل، تقوده جماعة الإخوان المسلمين بدلاً من أنظمة الحكم فى الشرق الأوسط.
وما يزيد من أزمة أردوغان، إدراكه الواضح أن التاريخ لم يعد فى صفه، وأن حجم المعارضين له فى تركيا «52%» يفوق الآن عدد مؤيديه، بعد أن تورط هو وابنه بلال وعدد من وزرائه المهمين فى قضايا فساد شهيرة، رأى أردوغان أن حلها الصحيح ضرب جهازى الشرطة والقضاء! كما أمعن فى معاداة الأجيال التركية الجديدة التى تعتقد أن تركيا ينبغى ألا تبقى أسيرة إلى الأبد لحكم أردوغان، لأنه حقق على امتداد أعوام حكمه السابقة إنجازاً اقتصادياً ضخماً مكن تركيا من أن تحتل المكانة السابعة بين الدول الأوروبية، جاء على حساب الحق الديمقراطى للمواطنين الأتراك الذين يستحقون ديمقراطية كاملة، لا تقيد حرية الرأى والتعبير ولا يتهددها الإرهاب الفكرى الذى يمارسه أردوغان، خاصة أن أردوغان يزداد شراسة فى معاملة الآخرين ويجنح كل يوم إلى المزيد من التسلط وحكم الفرد، ولم يعد يطيق أى رأى معارض حتى إن جاء من صديق قديم مثل الرئيس السابق عبدالله جول، ويزيد على ذلك أن أردوغان أغرق تركيا فى مشاكل ضخمة بعد أن نجحت فى إنهاء مشاكلها مع كل الجيران، وفتح بتدخله السافر فى الشأن السورى وتصميمه على إسقاط الرئيس بشار الأسد باباً جديداً لعودة المشاكل بين البلدين، تظهر آثاره بوضوح فى مناطق الحدود المشتركة التى تكتظ بمئات الآلاف من اللاجئين السوريين والأكراد!
لكن الأخطر من جميع ذلك انكشاف تحالفه البغيض مع منظمة داعش الإرهابية، التى اعتبرها الرئيس التركى أداة لتنفيذ سياساته الإقليمية يستخدمها ضد سوريا والعراق فى صفقة كريهة، التزمت فيها تركيا بفتح حدودها مع سوريا سداحاً مداحاً، وتمرير كل المساعدات إلى داعش، ابتداء من المؤن والأسلحة والذخائر إلى المقاتلين الأجانب الذين يأتون من العواصم الأوروبية ليشاركوا فى الحرب إلى جوار داعش! وبرغم إلحاح دول الاتحاد الأوروبى على أردوغان كى يغلق حدوده أمام عبور هؤلاء المقاتلين الذين يمكن أن يكرروا فى دولهم الأوروبية قصة الأفغان العرب، سد أردوغان أذنيه وسمح باستمرار عبور الآلاف منهم إلى داعش، إلى أن صدر قرار مجلس الأمن الأخير يمنع كافة الدول من تسهيل مرور المقاتلين الأجانب للالتحاق بأى من منظمات الإرهاب!
وتكشف عملية إفراج داعش عن موظفى القنصلية التركية فى الموصل «49 موظفاً»، الذين ألقت داعش القبض عليهم بعد سقوط المدينة، عن حجم التواطؤ بين أردوغان وداعش، لأن داعش المعروفة بوحشيتها عاملت أسراها الأتراك بكرم بالغ، وحرصت منذ اليوم الأول على إبلاغ تركيا بأنها سوف تفرج عن موظفى القنصلية فى أقرب وقت ممكن، وبرغم ادعاء رجب طيب أردوغان بأن الإفراج تم من خلال عملية تحرير دقيقة قام بها الأمن التركى، فإن الوقائع المعلنة تقول بوضوح كامل إنه لم تكن هناك عملية تحرير كما ادعى أردوغان كذباً، وإن الإفراج تم فى إطار علاقة التواطؤ بين الحليفين، ولهذه الأسباب خرجت مظاهرات الشعب التركى فى شوارع معظم المدن تدين التواطؤ بين داعش وأردوغان، وتطالب بكشف أسرار صفقة الإفراج عن موظفى القنصلية وإعلان الثمن الذى دفعه أردوغان لداعش، بما زاد من تدهور مكانة الرئيس التركى داخل بلده، وضرب أغلبيته المحدودة التى مكنته من الفوز بانتخابات الرئاسة الأخيرة.
وما من شك أن الرئيس السيسى يشكل جزءاً مهماً من أزمة أردوغان الشخصية، ليس فقط لأن السيسى أجهض حلمه فى الخلافة الإسلامية، عندما ساند مطالب المصريين المشروعة بإزاحة حكم جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن خرج إلى شوارع القاهرة والمحافظات أكثر من 30 مليون مصرى فى تظاهرة لم تعرف الإنسانية مثالاً لها يطالبون بإسقاط حكم المرشد، ولكن لأن السيسى نجح فى أن يكسب ثقة شعبه على نحو أدهش العالم، وجاء إلى الجمعية العامة تسبقه إشارات قوية من داخل مصر تؤكد لكل المراقبين الفرص المتزايدة فى أن تتمتع مصر بالأمن والاستقرار فى ظل حكمه، وتفاؤل المصريين برئيسهم الجديد وعزمهم الواضح على إنجاحه بما يؤكد أن قصة الانقلاب العسكرى تبخرت دخاناً فى الهواء ولم تعد تنطلى على أحد، وأن العالم بأكمله يستقبل الرئيس السيسى بحفاوة منقطعة النظير، ويبدى استعداده للتعاون مع مصر بمن فى ذلك الرئيس الأمريكى أوباما الذى طلب فتح صفحة جديدة فى علاقات البلدين اعترافاً بمكانة السيسى وسط شعبه وإدراكاً لحقيقة الأمر الواقع، وأظن أن ذلك يمثل جوهر عقدة أردوغان من السيسى، لأن أردوغان يكره أن يكون فى الشرق الأوسط رئيس يفضله مصداقية وشعبية، ولأن العناد والمكابرة والحماقة سيطرت على أردوغان بحيث لم يستطع أن يضبط توازنه، وانطلق فى هلاوس غريبة يسب مصر والأمم المتحدة وهو يلقى خطابه من فوق منبر الجمعية العامة فى قاعة شبه فارغة من الحضور تجسد أزمة أردوغان فى سقوطه الأخلاقى، بينما يصعد نجم جديد فى الشرق الأوسط أكثر مصداقية وأكثر صدقاً مع شعبه، يرفض أن يرد على تجاوزات الرئيس التركى أدباً واحتراماً لنفسه، فهل نحن أمام صدام جديد لإرادات ومصالح فى الشرق الأوسط، أم أنها الحماقة أعيت من يداويها؟!