مكرم محمد أحمد
بينما ينكمش تنظيم القاعدة ويفقد سيطرته على معظم شبكاته فى الخارج، وتخف قبضة سلطته المركزية إلى حد يكاد يختفى معه وجود تنظيم واحد، ويكاد القاعدة يتحول إلى مجموعة أفكار وعقائد تشكل نهجاً يميز تنظيماته عن باقى جماعات الإرهاب، يكبر تنظيم داعش وتتوحد سلطته المركزية، ويعلن رئيسه أبوبكر البغدادى نفسه خليفة للمسلمين وأميراً للمؤمنين من فوق أكبر جامع فى الموصل! ويملك جيشاً منضبطاً حسن التنظيم، يشهد خبراء البنتاجون الأمريكى بقدراته القتالية العالية وحسن تنسيق عملياته! ويتمدد نفوذه داخل الأراضى السورية والعراقية فى مساحات شاسعة، تبدأ من حلب إلى محافظتى الرقة ودير الزور السوريتين، إلى الموصل شمال العراق، وجنوباً إلى محافظات ديالى والأنبار وصلاح الدين، حيث تسكن عشائر السنة العرب، وصولاً إلى أسوار العاصمة بغداد!
ويسيطر «داعش» وسط هذه المساحات الشاسعة على مصادر ثروة متعددة، تتمثل فى حقول غاز وبترول، مكنت «داعش» من ثروة ضخمة ساعدته على كسب العديد من قبائل السنة فى هذه المناطق، الذين يقلقهم كثيراً غلبة الطائفية على حكم العراق، فى ظل حكم رئيس الوزراء المعزول نورى المالكى، كما يقلقهم توجه الأكراد فى الشمال إلى الانسلاخ عن العراق فى دولة مستقلة، عاصمتها مدينة كركوك التى استولت عليها البشمرجة الكردية وسط فوضى زحف «داعش» على الأرض العراقية، لتصبح كركوك جزءاً من كردستان العراق والعاصمة الجديدة لدولتها المستقلة، التى يخطط الأكراد لإعلانها بعد استفتاء عام يجرى الإعداد له الآن، ولا تزال قصة صعود «داعش» المفاجئ والسريع منذ انسلاخه عن تنظيم النصرة الذى يتبع تنظيم القاعدة خلال الحرب الأهلية السورية، مثل جبل الجليد العائم أغلبه لا يزال تحت السطح، لم يكشف بعد عن كل أسراره رغم بروز عدد من الحقائق المهمة.
أولها، أن «داعش» يعتقد أنه الوريث الطبيعى لتنظيم القاعدة الذى أصابه الضعف والتمزق بعد مقتل بن لادن، لأن رئيس القاعدة الجديد أيمن الظوهرى، فضلاً عن ضعفه وتردده، لا يملك قدرات بن لادن على تجميع قيادات التنظيم والسيطرة على نشاطه الخارجى والحفاظ على وحدته، كما أن «القاعدة» تعرض لاختراقات عديدة وخطيرة أدت إلى فقدانه لعدد غير قليل من قياداته الأساسية، نجح الأمريكيون فى اصطيادهم واحداً وراء الآخر، فضلاً عن ميل «القاعدة» المتزايد للترهل وغياب الانضباط والتفريط فى أصول الدعوة وفروعها بصورة يصعب معها إصلاح هذا العوار، ولهذه الأسباب يبدو «داعش» أكثر تنظيماً وانضباطاً وأكثر تشدداً وتعصباً يحكم بالحديد والنار، ولم يتورع عن ملاحقة مئات الآلاف من مسيحيى العراق الذين يسكنون وادى نينوى قريباً من الموصل، إلى حد أن معظمهم غادر العراق إلى كردستان العراق هرباً من ملاحقات «داعش»، وهذا ما حدث أيضاً مع طائفة اليزيديين الذين قتلوا منهم أكثر من 80 شخصاً واختطفوا نساءهم وطردوهم من قراهم إلى أن حاصروهم فى جبل سنجار فى الشمال، لكن الأمريكيين قصفوا قوات «داعش» وألزموها فك الحصار.
وثانيها، أن «داعش» فى غضون شهور معدودات أصبح أغنى التنظيمات الإرهابية وأقواها وأكثرها سلاحاً وعتاداً، ولا يزال حصول «داعش» إبان الحرب الأهلية السورية على جزء غير قليل من الأسلحة الأمريكية التى كانت تذهب للجيش السورى الحر ولقوات المعارضة السورية يمثل قصة مريبة! لكن اللغز الأكبر يتمثل فى نجاح «داعش» المفاجئ فى الاستيلاء على الموصل، أكبر مدن العراق، بعد اشتباكات محدودة مع الجيش العراقى استمرت ثلاثة أيام، ترك فيها الجيش العراقى الذى يضم أربع فرق مسلحة، كل فرقة قوامها 35 ألف جندى يملكون ما يقرب من نصف مليون قطعة سلاح، مواقعه وعتاده لداعش، ابتداء من بنادق المشاة إلى المدرعات والدبابات والمدفعية الثقيلة! ولا يزال السؤال اللغز، كيف اختفى الجيش الجرار أمام بضعة آلاف من قوات «داعش» لتسقط الموصل ويتحصل «داعش» على حجم مهول من العتاد ساعده على تحصين مواقعه فى الأماكن الشاسعة التى تقع تحت سيطرته؟ وبسبب هذه الثروة المهولة زادت قدرة «داعش» على جذب المنظمات والجماعات الصغيرة، وغير كثير من الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم القاعدة ولاءاتها لصالح «داعش»، بما فى ذلك تنظيم النصرة الذى خرج «داعش» من تحت ردائه، كما مكنت «داعش» من بسط نفوذه على مجموعات واسعة من القبائل والعشائر العربية، تسكن مناطق الوسط ما بين الموصل شمالاً وبغداد العاصمة، عانوا الأمرين من طائفية حكم نورى المالكى واستبداده وحرصه على تهميش مصالح العشائر العربية، رغم أنهم وقفوا إلى جواره فى بداية حكمه، وشكلوا، بناء على طلبه، قوات الحرس الوطنى من أبناء العشائر التى نجحت فى دحر تنظيمات القاعدة وطردها من كل مناطق الوسط التى يسكنها السنة، لكن رئيس الوزراء نورى المالكى خذل العشائر السنية عندما رفض ضم قوات الحرس الوطنى إلى الجيش العراقى، حرصاً على غلبة الطائفة الشيعية داخل الجيش!
وثالثة هذه الحقائق وأخطرها، ما يتعلق بالعلاقة الملتبسة بين الأمريكيين و«داعش»، لأن «داعش» حقق هذا النمو الكبير، وتحول إلى وحش ضخم تحت نظر الأمريكيين وربما بمباركتهم لعدة أهداف أهمها أن صراع «داعش» و«القاعدة» يفيد قضية الأمن الأمريكى، كما أن «داعش» يمكن استخدامه كفزاعة تكبح جموح المالكى المتزايد للخروج عن طوع الأمريكيين، وهذا ما حدث بالفعل، لأن زحف «داعش» على العراق كان أهم الأسباب التى بررت إعفاء المالكى من منصب رئيس الوزراء، خاصة أن واشنطن حرصت على أن يظل «داعش» دائماً تحت السيطرة، وعندما خرج «داعش» عن حدود اللعبة واقتربت قواته من أربيل عاصمة كردستان العراق، لم يتردد الرئيس الأمريكى أوباما فى قصف قوات «داعش» لصالح الأكراد، وأعلن بوضوح أن واشنطن سوف تقوم بتسليح الجيش الكردى (البشمرجة) بعيداً عن سلطة العاصمة المركزية بغداد، رغم مخاطر ذلك على وحدة الدولة العراقية، دون أن يلزم نفسه باستمرار القصف الجوى لـ«داعش» حتى هزيمته، معتبراً أن تلك معركة طويلة الأمد يقع أغلب مسئوليتها على عاتق العراقيين أنفسهم، وإن كانت واشنطن لا تمانع فى المساعدة!
وأظن أن السؤال المهم الآن، ماذا بعد سقوط نورى المالكى رئيس الوزراء العراقى الذى لعبت فيه الإدارة الأمريكية دوراً رئيسياً ألزم المالكى التراجع عن خطط العصيان التى بدأ فى تنفيدها، عندما أمر بإنزال الأمن والجيش والميليشيات الشيعية إلى شوارع بغداد كى يظل رئيساً لوزراء العراق، بدعوى أنه لا يزال الرئيس الشرعى المنتخب ولا يزال حزبه يملك أغلبية مقاعد البرلمان العراقى؟
وهل تغير إدارة أوباما موقفها من قضية العراق، بحيث تتحمل واشنطن مسئولية الحفاظ على وحدة الدولة والأرض العراقية بعد أن نجحت فى تقليص الأغلبية البرلمانية لحزب نور المالكى وتمكنت من إسقاطه، وتكاد تنجح فى إقامة حكومة عراقية جديدة يجرى تشكيلها الآن برئاسة حيدر العبادى أحد القيادات الشيعية المعتدلة، تستوعب غضب عشائر السنة فى محافظات ديالى والأنبار وصلاح الدين، وتشجعها على أن تنفض يدها من مساندة «داعش»، كما تنجح فى كبح جموح أكراد الشمال الذين يستعجلون انسلاخهم عن العراق فى دولة مستقلة، بحيث يصبح هناك أمل جديد فى أن يتمكن العراق من هزيمة «داعش» والحفاظ على وحدته ودولته وكيانه؟! أم أن المؤامرة تنطوى على خريطة جديدة تبقى على سيطرة «داعش» على هذه المساحات الشاسعة من الأراضى السورية والعراقية طالما التزم «داعش» عدم المساس بكردستان العراق، لأن بقاء «داعش» يمكن أن يخدم أهدافاً أمريكية عديدة، أولها إبقاء منطقة الخليج تحت ضغوط حاجتها الملحة إلى مساندة خارجية قوية تحفظ أمنها من مخاطر «داعش»، وثانيها حفز حكومة بغداد الجديدة على النهوض بمسئولياتها فى استيعاب سنة العراق واسترضاء أكراد الشمال؟
أظن أن تطورات الأحداث خلال الأسابيع القليلة المقبلة سوف تكشف المستور من هذه القصة، وسواء حدثت المعجزة ونجح رئيس الوزراء العراقى الجديد حيدر العبادى فى استيعاب سنة العراق واسترضاء الأكراد، ولم شمل العراق مرة أخرى فى ظل حكومة وحدة وطنية تنبذ النهج الطائفى، وهو الخيار الأصعب والأقل احتمالاً بسبب عمق الخلاف السنى الشيعى والخلاف الكردى الشيعى، أو تحول العراق إلى اتحاد فيدرالى بين ثلاث سلطات شبه مستقلة، الأكراد فى الشمال والعرب فى الوسط والشيعة فى الجنوب، وهو الاتجاه الذى تحبذه دوائر أمريكية عديدة! فسوف يظل مستقبل العراق محفوفاً بمخاطر الانقسام والتمزق، لكن الأمر المؤكد أن ما حدث للعراق منذ الغزو الأمريكى من تمزق وبؤس وخراب وسفك دماء سوف يظل عاراً يلاحق الأمريكيين فى العالمين العربى والإسلامى، يأكل مصداقيتهم ويثير شكوك دول وشعوب المنطقة حول حقيقة أهدافهم وطبيعة مخططاتهم فى الشرق الأوسط، خاصة أن الغزو الأمريكى للعراق كان بأكمله خارج لعبة الحرب على الإرهاب!