مكرم محمد أحمد
القصر فخم والأثاث أنيق ووثير، والمكان قطعة نادرة من تاريخ مصر الحديث، يستحق المعركة الطويلة التى خاضها دكتور أحمد زويل كى ينتزعه من براثن البيروقراطية المصرية ليصبح مقراً لرئاسة مدينة زويل وأكاديميته للبحث العلمى، لا تزال جدرانه تحمل صوراً زاهية لميناء البسفور على أيام الخلافة العثمانية، تم تجديدها حديثاً، تفتح أبهاؤه على حديقة خلفية أنيقة، يصعب تخيل وجودها فى هذا المكان على ناصية حى جاردن سيتى أمام مبنى مجلس الوزراء، فى هذه الحديقة استقبل الخديو إسماعيل قبل أكثر من مائة وخمسين عاماً ملوك أوروبا وبينهم الجميلة أوجينى فى حفل استقبال مشهود سبق افتتاح قناة السويس.
وفى هذه الحديقة استقبل الدكتور زويل قبل عدة أيام جمعاً من العلماء ورجال الأعمال والاقتصاد والإعلام وهيئات التدريس الجامعية فى حفل أنيق جاء بمنزلة إعلان عن شفاء الرجل من مرض عضال، شرح فيه الدكتور زويل أبعاد المرحلة المقبلة من عمل معهده العلمى بعد ثلاث سنوات من الحرب الضارية صراعاً على مقر الأكاديمية فى مدينة 6 أكتوبر، استنزفت جهود الجميع، وأحبطت آمال الكثير من المصريين، وأثرت على مصداقية كل الأطراف، إلى أن أوان إغلاق صفحات هذه المرحلة التى عانت كثيراً من الخلط السيئ بين السياسة والعلم، وأحدثت شقاقاً فى نخبة مصر العلمية العليا، وأحالت العلاقات بين معهدين علميين محترمين إلى عراك وتظاهرات وقضايا أمام المحاكم بدلاً من أن تكون علاقة شراكة وإخوة علمية، يكاد يكون درسها الوحيد المستفاد، عدم الخلط بين العلم والسياسة، لأن مهمة العالم أن يتفرغ لرسالته لا شأن له بخلافات السياسيين، خاصة إذا كان عالماً مرموقاً مثل الدكتور زويل يمكن أن يحقق فوائد جليلة لوطنه.
ولا عتاب ولا تثريب على الدكتور زويل فى حبه للأناقة والفخامة وحسن المظهر، فهذا حقه لا ريب فى ذلك، خاصة أن المكان يستضيف إدارة معهد أكاديمى وبحثى عالى القيمة، يمكن أن يكون بوابة مصر إلى القرن الحادى والعشرين، يخصص جهده لبحوث علوم المستقبل فى مجالات الليزر والنانو تكنولوجى والخلية الحيوية والطب والصناعة والطاقة، ويضم سبعة مراكز علمية متقدمة تتكامل فيها تخصصات العلوم المختلفة، بما يساعد الباحثين على إنجاز ابتكارات عملية جديدة تحدث تطبيقاتها العلمية تطويراً جذرياً فى مجالات الحياة المختلفة، تساعد الإنسان على قهر المجهول والمستحيل، وتفتح آفاقاً جديدة للتطور الإنسانى، تمكن مصر من أن تكون شريكاً حقيقياً فى السوق العالمية للبحث العلمى، تفيد وتستفيد وتأخذ وتعطى بدلاً من أن تنتظر فتات الآخرين!
والواضح من الرؤية التى قدمها الدكتور زويل أن أول شروط نجاح مشروعه هو الحفاظ على استقلاله الكامل عن السلطة التنفيذية، لأن البحث العلمى لا يمكن أن ينمو ويتقدم فى ظل قيود البيروقراطية على حرية الرأى والإبداع، وفى كنف تباطؤ وتعقيد إجراءاتها التنفيذية. وما لم يتم تقنين هذا الاستقلال فى وضع قانونى واضح وحاسم يحصن مؤسسة البحث العلمى من تدخل البيروقراطية، فلن يكون البحث العلمى قادراً على النفاذ من سلطانها، ولن يكون قادراً على مواجهة حملات الإرهاب الفكرى التى تستغل جهل العوام وتعلقهم بالخرافة. والاستقلال لا يتعارض أبداً، كما يقول الدكتور زويل، مع حق سلطات الرقابة فى التفتيش على الموازنات المالية ومراقبة أوجه الإنفاق والخضوع لمراجعات الجهاز المركزى للمحاسبات من خلال معايير شفافة تتفهم رسالة البحث العلمى وضروراته.
ولا يقل أهمية عن ذلك معايير اختيار النخبة العلمية التى تشكل القوة البشرية لمراكز البحث العلمى، التى يتحتم أن تضم الأكثر قدرة على التفكير المبدع، يتم اختيارهم من خلال تصفيات متتابعة عبر اختبارات نوعية تتجاوز معايير التفوق الدراسى الذى يمكن أن يكون سببه الحفظ والاستظهار، إلى طرائق استخدام العقل، وسلامة التفكير المنطقى، وخصوبة الخيال ودقة المتابعة والملاحظة. وبرغم أن الأكاديمية تشترط على طلابها الحصول على نسبة 98% على الأقل من مجموع الثانوية العامة، فإنها تجرى على هؤلاء اختبارات متعددة تكون نتيجتها اختيار 300 طالب من بين 6 آلاف متقدم بمعدل واحد من كل عشرين طالباً، يخضعون لتصفيات متتابعة تضمن أن يكون ضمن قوة البحث العلمى للمعهد الأكثر قدرة وذكاءً ومعرفة وملاحظة واكتمالاً فى الشخصية، بما يضمن حسن الاستثمار البشرى، لأن كلفة الطالب فى الموسم الدراسى الواحد تتجاوز مائة ألف جنيه يمكن أن تقدمها الجامعة منحة لطالب تتوافر فيه هذه المقومات دون اعتبار لقدرته المالية.
وبسبب هذه الكلفة العالية تنحصر أعداد مراكز التقدم العلمى فى العالم فى أرقام جد محدودة، ففى فرنسا ثمة معهدان علميان اثنان هما اللذان يقودان عملية التطوير العلمى والتكنولوجى فى فرنسا، وفى أمريكا هناك 10 جامعات مميزة من بين عشرين ألف جامعة هى التى تقود التقدم العلمى فى الولايات المتحدة، وكذلك الحال فى كل دول العالم، لأن الفلسفة التى تقوم عليها هذه المعاهد تعترف بأن البحث العلمى مكلف ويحتاج إلى إنفاق ضخم، كما يحتاج إلى أشخاص علميين أكفاء هم زبدة المجتمع، لكنه يرتب عوائد ضخمة تفوق كلفة هذه الأبحاث مئات المرات، وفى قطاع الدواء فقط ثمة إنجاز أخير حدث فى العام الماضى أحدث اختراقاً مهماً فى علاج الأورام، تجاوز عائده أربعين مليار دولار فى العام، تبلغ تكلفة الحبة الواحدة من الدواء ألف دولار، كان أحد العوامل المهمة التى ساعدت على شفاء دكتور زويل. ولهذه الأسباب يصبح من مسئولية مؤسسات البحث العلمى فى كل بلد أن تحدد مهامها وفق أولويات واحتياجات هذا البلد، بما يساعد على ضمان عائد البحث العلمى، وهذا ما يحدث فى مؤسسة زويل التى تكرس جهدها فى بحوث الطاقة على طرائق تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية من خلال بحوث جاوزت المرحلة المعملية، واستخدام الخلايا الجذعية فى إعادة تصحيح الخلايا المريضة فى الجسم الإنسانى الذى حقق تقدم مهماً بالاشتراك مع جامعة أسيوط، فضلاً عن تخصصات أخرى عديدة تتعلق ببحوث الليزر والفمتو ثانية والنواة الداخلية للخلية الحيوية. صحيح أن احتياجات مصر من البحث العلمى تتسع لتشمل قضايا عديدة تتعلق بصحة الإنسان المصرى، أهمها أمراض الكبد الوبائى والفشل الكلوى وتقزم الأطفال، لكن تحديات عصرنا المقبل المتعلقة بتغيرات المناخ تفرض علينا موضوعات مستحدثة تتعلق بمحدودية مياه الرى ومدى علاقة محاصيلنا الزراعية الراهنة بالارتفاع المتوقع فى درجات حرارة الجو، وكلها تحديات وجودية تفرض الإيمان بضرورة البحث العلمى، والاعتماد عليه، واعتباره طوق النجاة من مشاكل عديدة تحاصرنا، فضلاً عن أن مكانة الدول سوف تتحدد فى المستقبل القريب فى ضوء قدراتها العلمية والبحثية التى تمكنها من أن تكون شريكاً نشيطاً فى البحث العلمى تفيد وتستفيد. ولأن مصر تملك إمكانات بشرية عالية ساعدتها فى معظم عصورها على أن تشارك فى صنع الحضارة الإنسانية، فإن فرص نجاح البحث العلمى فى مصر جد واسعة تحتاج إلى الرعاية والتركيز والاهتمام والإيمان بدور العلم فى خدمة الحياة وتحديث الحضارة الإنسانية.