فهمي هويدي
فى أحدث حلقة من مسلسل إعادة كتابة تاريخ ثورة 25 يناير، قال محامى أحد قيادات الداخلية أمام محكمة جنايات القاهرة فى الأسبوع الماضى إن المتظاهرين هم الذين قاموا بالاعتداء على الشرطة وليس العكس. ولكى يؤيد الرجل كلامه فإنه قدم شريطا مصورا مدته ساعتين إلا ربعا لبعض المشاهد واللقطات المجتزأة التى حاول بها إقناع المحكمة بأن الشعب المفترى وثواره الأشرار هم الذين جنوا على الشرطة التى كانت خرجت لاحتضانهم وتهدئة خواطرهم.
كان صاحبنا كريما فلم يتهم الثوار بتعذيب الشرطة، ولكنه اكتفى بتوجيه اتهامه للمتظاهرين فى تطوير للموقف التقليدى الذى دأبت الداخلية على إعلانه فى كل تصادم يقع. وهو الذى لا ينسب إلى الشرطة اعتداء ولكنه يقرر دائما أن المتظاهرين هم الذين بدأوا العدوان، وفى كل مرة «تضطر» الشرطة للرد دفاعا عن النفس.
اتهام المتظاهرين بالاعتداء على الشرطة يسبقه ادعاء آخر هو أن خروج الجماهير فى 25 يناير كان مؤامرة لإسقاط الدولة المصرية. وهو ما ذكره المحامى مرددا الفكرة التى ما برحت تروج لها وسائل الإعلام وبعض أركان وأبواق نظام مبارك. وهو الخطاب الذى انتج عبارة «نحن آسفون يا ريس».
لإنعاش الذاكرة، ولكى لا يلتبس الأمر على أحد، فربما كان مفيدا أن نتابع حلقات المسلسل من بدايته. فى هذا الصدد أزعم أن ما عرض علينا فى المشهد أربع حلقات تتابعت على النحو التالى:
* الحلقة الأولى تمثلت فى تقرير لجنة لتقصى حقائق أحداث الثورة (من 25 يناير 2011 إلى 11 فبراير من العام ذاته). وهى اللجنة التى رأسها المستشار الدكتور عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض، وضمت من بين أعضائها عددا من كبار القانونيين وعلماء الاجتماع، الذين استعانوا بفريق من الباحثين والمساعدين، وفى التقرير ذكرت اللجنة ما نصه «أن رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوش ذخيرة حية فى مواجهة المتظاهرين، أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير. خاصة من مبنى وزارة الداخلية ومن فوق فندق النيل هيلتون ومن فوق مبنى الجامعة الأمريكية، وقد دل على ذلك أقوال من سئلوا فى اللجنة، ومن مطالعة التقارير الطبية التى أفادت بأن الوفاة جاءت غالبا من أعيرة نارية وطلقات خرطوش فى الرأس والرقبة والصدر، على أن إطلاق الأعيرة النارية لا يكون إلا بموجب إذن صادر من لجنة رئاسة وزير الداخلية».
* هذه الإدانة الصريحة للشرطة (الموجهة إلى قياداتها بطبيعة الحال) جمدت وتم تجاهلها. وقد تحركت المؤسسة الأمنية بسرعة لإجهاضها. فتوالت التقارير والشهادات التى بدأت تروج لفكرة أن غرباء ظهروا فى ميدان التحرير. ومنهم من اعتلى المبانى العالية وشارك فى القنص. وبدأت أصابع الاتهام تشير إلى مجموعات من حركة حماس وحزب الله استثمارا لأجواء العلاقات السلبية المخيمة على علاقات القاهرة بالاثنين. ولم يعرف بعد كيف استطاعت تلك المجموعات الوصول إلى ميدان التحرير، ولماذا لم ترصدها المخابرات الحربية التى كان يرأسها آنذاك اللواء عبدالفتاح السيسى؟. الشاهد أن إقحام حماس وحزب الله فى المشهد كان من شأنه أن يخفف من الاتهام الموجه إلى الشرطة المصرية ويشرك طرفا آخر فى المسئولية عن العنف الذى وقع والقتل الذى حدث، وكان قد سبق استدعاء حماس وحزب الله حديث متواتر عن «طرف ثالث» غير المتظاهرين والشرطة، ولم يكن ذلك الطرف الثالث سوى هؤلاء المتسللين عبر الحدود.
* بعدما تولت الأجهزة الأمنية كتابة تاريخ تلك الفترة، غسلت أيدى الشرطة من العنف وتمت تبرئة الضباط ومساعديهم الذين اتهموا فى جرائم القتل. وفى أكثر من أربعين قضية حكمت المحاكم ببراءة جميع الضباط المتهمين. وحين لم يكن هناك مفر من إدانة عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، فإن هؤلاء أطلق سراحهم فى وقت لاحق (كما فى حالة الضابط الذى أدين فى قتل سيد بلال بالإسكندرية) أو ألغى الحكم وتقررت إعادة المحاكمة من جديد (كما فى حالة الذين أدينوا فى قتل 37 معتقلا أثناء ترحيلهم إلى سجن أبوزعبل).
* المرحلة الرابعة هى التى نحن بصددها الآن، وبمقتضاها لا تتم تبرئة ضباط الشرطة وحسب، ولكن يتهم المتظاهرون بالاعتداء عليهم، ومن ثم تحميلهم مسئولية العنف الذى وقع.
بقيت مرحلة أخيرة ـ لا نعرف متى ستجئ ـ تتم بمقتضاها محاكمة الذين تظاهروا فى 25 يناير بتهمة الاعتداء على الشرطة والاشتراك فى إسقاط الدولة المصرية. ومن الطبيعى فى هذه الحالة أن يظهر فى الأفق شعار يعبر عن الاعتذار والندم يقول بالفم الملآن، آسفون يا شرطة.
ما جرى يذكرنى بقصة ربما رويتها من قبل، خلاصتها أن «لورد» إنجليزيا قرر فجأة أن يهاجر من بلاده، حين سئل عن السبب فى ذلك قال إن الشذوذ الجنسى كان مجرما فى بلاده، ولكنه أبيح بعد ذلك، وتطور الأمر بحيث أصبح استهجانه جريمة يعاقب عليها القانون، ثم أصبح الشاذون يطالبون بحقوقهم فى الميراث والمعاش، ثم سمح لهم بالتبنى، وإزاء استمرار الاستجابة لطلباتهم فإن اللورد توجس من المستقبل. وقال لمن سأله إنه قرر أن يهاجر قبل أن يصبح الشذوذ إجباريا.
النقطة الأخيرة هى التى تهمنى، إذ تدعونى إلى التساؤل عما إذا كان استمرار المسلسل سوف يؤدى فى النهاية إلى محاسبة ثوار 25 يناير ومحاكمتهم، وربما نصحوا فى هذه الحالة بأن يحاولوا الهجرة من مصر قبل وقوع المحظور.