فهمي هويدي
(١)
الشرطة دفعت بأربع مدرعات وناقلتى جنود، وإذا توافر لها الغطاء الجوى المناسب فسوف يتم تحرير الجامعة بنجاح. هذا التعليق المسكون بالسخرية المرّة والمبالغة يختزل المشهد فى جامعة القاهرة يوم الأحد الماضى (١٠/١٢)، وهو ليس لى، لكننى وقعت عليه أثناء مطالعتى للتغريدات التى تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعى يومذاك، والتى سجلت سيلا من التعليقات والملاحظات على اشتباكات اعداد من طلاب الجامعات مع عناصر الشركة الأمنية التى كُلفت بحراسة مداخلها. وهو ما أدى إلى تدمير اجهزتها واشاعة الفوضى فى نظام الدخول إلى الحرم الجامعى، وانتهى بتظاهر الطلاب ضد الاجراءات الأمنية والوضع القائم، كما أسفر عن إلقاء القبض على بعضهم.
ما جرى يثير العديد من الأسئلة حول احتمالات العام الجامعى الجديد وكيفية تجنب السيناريو الأسوأ خلاله، إلا إننى وجدت صعوبة فى الاجابة عن تلك الأسئلة قبل تحديد المشكلة والتعرف على عناصرها. ذلك إننى لاحظت فى التغطية الاعلامية أن اصابع الاتهام سارعت بالإشارة إلى الإخوان باعتبارهم وراء العنف الذى حدث فى الجامعات، وهو التقليد الذى اصبح مستقرا فى خطابنا الاعلامى والسياسى، والذى اعتبرهم مصدر كل شر يحدث فى مصر (والعالم العربى أيضا)، حتى فى حالات العنف التى اعلنت جهات اخرى مسئوليتها عنها. يشهد بذلك ما حدث فى تفجير مديريتى أمن الدقهلية والقاهرة، حين أعلن مجلس الوزراء رسميا عن اتهام الاخوان فيها، وقرر المجلس اعتبار الجماعة ارهابية فى اعقاب الحادث الأول، ثم فوجئنا بأن جماعة أنصار بيت المقدس بثت شريطا فى وقت لاحق سجلت فيه قيامها بالتفجيرين.
رغم ان ذلك الخطاب وصم الجماعة ولطخ سجلها بالأوحال والدماء، إلا أنه وفر لها فى الوقت ذاته دعاية لا بأس بها حين صورها باعتبارها قوة عظمى لها أذرعها الطويلة المنتشرة فى مختلف أنحاء مصر. كما انها من الصلابة والمنعة بحيث ظلت قواعدها متماسكة وقادرة على إثارة القلق وازعاج السلطة، رغم مضى ١٥ شهرا لم تتوقف خلالها جهود اقتلاعها واستئصالها من الواقع المصرى.
هذه المبالغة فى قوة الإخوان إذا كانت محل شك فى مجمل الواقع المصرى إلا أنها تصبح خطأ فادحا حين يتعلق الأمر بالجامعات، ذلك ان أى باحث على صلة بالملف يعرف ان نسبة الاخوان بين شباب الجامعات أقل منها بكثير خارجها. لذلك أكرر ان الادعاء بأن الإخوان وراء ما جرى ويجرى فى المحيط الجامعى هو بداية الخطأ فى تشخيص المشكلة التى هى اصلا مع عموم الشباب فى مصر، وغاية ما يمكن أن يقال ان الاخوان فى الجامعات هم جزء من اولئك الشباب وليسوا الكل بأية حال. وهو ما يسوغ لى ان اصف الادعاء بأن الاخوان هم الذين اثاروا الاضطرابات والفوضى فى الجامعات هذا الاسبوع بأنه من قبيل التضليل الاعلامى الذى يستهدف التهرب من الحقيقة وصرف الانتباه عن جوهر مشكلة النظام القائم مع الشباب.
(٢)
حين دعا الرئيس عبدالفتاح السيسى جريدة «الأهرام» فى شهر سبتمبر الماضى إلى تبنى فكرة اجراء حوار مع الشباب حول رؤيتهم للمستقبل ودورهم فى المشاركة السياسية، لم يكن ذلك من قبيل المصادفة، ولكن كان تعبيرا عن الشعور بالحاجة إلى التواصل مع الشباب ومد الجسور معهم. ولا يحتاج المرء لأن يبذل جهدا لكى يرى فى الدعوة ادراكا لحقيقة الأزمة التى لاحت بوادرها أثناء حملة ترشح الفريق السيسى للرئاسة فى شهر ابريل الماضى، التى التقى خلالها ممثلين لقطاعات عدة لم يكن الشباب من بينها، لحسابات أمنية فى الأغلب. شواهد الأزمة تعددت بعد ذلك وبرزت فى مناسبات عدة كان من بينها غياب الشباب عن الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية، واصبحت أشد بروزا بعد صدور قانون التظاهر، وفى مناسبة الذكرى الثالثة لثورة (٢٥ يناير الماضى) وصلت الأزمة إلى الذروة. حينما تعالت أصوات التجريح الاعلامى لثورة ٢٥ يناير واتُهم الشباب الذين حملوها بأنهم مرتزقة وارهابيون وعملاء، كما وصفت الثورة ذاتها بأنها مؤامرة دُبرت لإسقاط الدولة المصرية.
لا يقف الأمر عند حد التراشق وتبادل التجريح والاتهامات، وإنما كان للشباب تضحياتهم التى قدموها خلال المواجهات التى حدثت فى ظل الوضع الذى قام بعد الثالث من يوليو ٢٠١٣، وطبقا للبيانات التى وثقها مرصد «طلاب حرية»، فإن تضحيات شباب الجامعات خلال تلك الفترة كانت على النحو التالى: < معتقلون من بيوتهم وفى المظاهرات ١٨١٢ < الذين اعتقلوا فى الحرم الجامعى ومحيطه ٦٥٨ < الطالبات المعتقلات ٥٥ < المفصولون من الجامعات ٥٠٢ < الذين قتلوا فى المظاهرات ٢٠٨ < الذين قتلوا فى الحرم الجامعى ١٩ < الطالبات اللاتى قتلن أثناء المظاهرات ٦ < الذين أطلق سراحهم ٦٢٥ < الذين طعنوا فى قرارات فصلهم وقرر القضاء اعادتهم إلى كلياتهم ٤٢.
هذه الخلفية فى علاقة السلطة بالشباب تشير بوضوح إلى أنها اتسمت بالتوتر الذى تجلى فى اجراءات القمع والفصل والاعتقال، إلى جانب المعاناة التى تعددت شواهدها فى اقسام الشرطة والسجون، وقرارات الحبس الاحتياطى والاحكام القضائية المشددة والغرامات المالية التى حملت كثيرين بما لا يطيقون. وهى علامات عمقت من الفجوة بين الطرفين واحدثت بينهما جرحا مفتوحا لم يتح له أن يطهر وأن يندمل.
(٣)
هذه الأجواء ألقت بظلالها على بدايات العام الجامعى الجديد، ذلك أن الاجراءات التى سبقت افتتاح العام الدراسى كان واضحا فيها النَّفَس الأمنى، كأنما كانت تجيب على السؤال التالى: كيف يمكن قمع وحصار الاحتجاجات الجامعية؟ تعددت اجابات السؤال، فقد اعلن عن تأجيل بدء الدراسة فى الجامعات أكثر من مرة. الأمر الذى أدى إلى تأخير بدء العام الدراسى ثلاثة أسابيع، كما صدر قرار بإلغاء انتخاب القيادات الجامعية (المديرون والعمداء ورؤساء الأقسام) وهو الانجاز الكبير الذى تحقق بعد ثورة يناير مؤكدا على استقلال الجامعات، الذى تم التراجع عنه بمقتضى ذلك القرار، ثم جرى تعديل قانون تنظيم الجامعات، بحيث اعطى رئيس الجامعة سلطة فصل الاساتذة دون عرضهم على مجلس للتأديب وذلك كله بالمخالفة للدستور والقانون.
شباب الطلاب كان المئات من زملائهم بين قتلى ومعتقلين ومفصولين على النحو الذى سبقت الإشارة إليه، فى حين أعلن نحو ١٥٠ منهم الاضراب عن الطعام احتجاجا على مظلوميتهم، منهم اثنان أو ثلاثة مهددون بالموت. فى الوقت ذاته أعلن عن تجنيد مجموعات ممن سموا بالطلاب الوطنيين للتجسس على زملائهم «المشاغبين»، وهو ما تحدث عنه مسئولون فى وزارة التعليم العالى وصرح به مسئول كبير فى جامعة الأزهر فى أحد البرامج التليفزيونية. وتقرر إلغاء أنشطة الأسر الطلابية بدعوى اشتغالها بالسياسة. ومنعت اعداد منهم من الالتحاق بالمدن الجامعية، وتحدثت وسائل الاعلام عن تفتيش غرف الطلاب فى تلك المدن، فى حين دعا البعض إلى إلغاء تلك المدن بدعوى أنها محاضن للطلاب، بل اقترح أحد المثقفين اغلاق جامعة الأزهر لمدة سنتين تجنبا لوجع الدماغ الذى يسببه طلابها. وحين بدأ العام الدراسى هذا الاسبوع قامت الاجهزة الأمنية بإلقاء القبض على العشرات من الطلاب الناشطين (أغلبهم من أعضاء الاتحادات الطلابية) ولم تعرف بعد الاتهامات التى وجهت إليهم. اما باقى الطلاب فقد طلب منهم التوقيع على اقرارات بعدم الاشتغال بالسياسة، ومنحوا بطاقات هوية خاصة تسمح لهم بالدخول بعد التدقيق فى تفتيشهم بطبيعة الحال.
من ناحية اخرى، فبعد إلغاء الحرس الجامعى بحكم قضائى، فإن المؤسسة الأمنية التفت على القرار واعادت الحرس من باب آخر، إذ شُكلت شركة أمنية تولاها رجال المؤسسة السابقون، وتم التعاقد معها على حفظ الأمن فى الجامعات.
ليست هذه هى كل الاجراءات التى اتُخذت بطبيعة الحال، لكنها القدر الذى اعلن عنها، والذى تعامل مع الجامعات بأساتذتها وطلابها باعتبارها مصدرا للقلق وبؤرا مشبوهة، لا يطمأن إلى هدوئها أو ولائها، فالتوتر يسود دوائر الاساتذة والطلاب، والتوجس مهيمن على الإدارة ودوائر الأمن.
(٤)
لماذا لم يتم التفكير فى الأمر بصورة أخرى تنطلق من السعى لاحتواء الشباب والتصالح معهم، وليس حصارهم وقمعهم؟. هذا سؤال افتراضى خطر لى وتصورته حلا للإشكال، لأنه يستدعى «سيناريو» يختلف تماما عما نراه على أرض الواقع حاليا. إذ بمقتضاه مثلا تسعى السلطة إلى ابطال مفعول اسباب التوتر وامتصاص الغضب الحاصل فى الجامعات، كأن يعاد النظر فى قانون التظاهر الذى اغضب كل دعاة الحرية فى مصر، والشباب فى المقدمة منهم، كما يحتكم إلى الدستور والقانون فى مراجعة القرارات التى انتهكت استقلال الجامعة واستهدفت قمع الاساتذة واخضاعهم لسلطات التقارير الأمنية. فى الوقت ذاته تشكل لجنة وطنية تبحث أوضاع الطلاب، تبدأ مهمتها بإطلاق سلاح المعتلقين والعفو عن المسجونين وإعادة المفصولين. وحبذا لو وعدت بإجراء تحقيق محايد ونزيه فى حوادث قتل الطلاب داخل الحرم الجامعى ومحاسبة المسئولين عنها من رجال الشرطة. مع الوعد بإعادة النظر فى الاجراءات التى اتخذت بحق طلاب المدن الجامعية الذين لا تسمح ظروفهم بالعيش فى مساكن مستقلة خارجها. أما الذين ارتكبوا حوادث عنف فى الجامعات فينبغى محاسبتهم وعقابهم بمنطق الآباء والمربين وليس بفظاظة وهراوة الجلادين. إذ إن هناك فرقا بين عقابهم وتأديبهم بالإنذار أو الحرمان المؤقت أو حتى الفصل لعام دراسى، وبين سحقهم وتدمير حياتهم ومستقبلهم بالفصل النهائى وحرمانهم من الالتحاق بأية جامعة أخرى فى مصر، إلى جانب سجنهم لسنوات تتراوح بين ١٠ و١٥ عاما.
على صعيد آخر، فليس مبررا ولا مفهوما ذلك القلق من الأسر الجامعية، التى هى بالأساس تحت اشراف الاساتذة، ولماذا التعامل معها باعتبارها خلايا نائمة مناهضة للنظام، وليست مختبرات تعلم الطلاب ثقافة الانشغال بالشأن العام، واحترام الاختلاف وتوظيفه لصالح ترشيد الرؤى واثرائها. ثم لماذا لا يفتح الباب لإجراء الانتخابات الطلابية بحرية ونزاهة لتشكيل اتحاداتهم باختلاف مستوياتها، لتصبح تلك الاتحادات صوت الطلاب الذى لا يلجئهم إلى العنف، إلى جانب كونها جسور التفاهم والتصالح بين التيارات المختلفة فى الجامعة، أو بين تلك التيارات وبين الإدارة والسلطة.
هذه مجرد أمثلة لكيفية تطبيع العلاقات بين الشباب والسلطة، واحتواء الأولين لكى يأخذوا مكانهم الذى يستحقونه ضمن فصائل العمل الوطنى. ولست أشك فى أن هناك الكثير الذى يمكن ترشيحه فى هذا المسار. إلا اننى أزعم أن الأمر ليس سهلا، وإنما هو اعقد وأكبر بكثير مما نتصور، ذلك أن المشكلة ليست فيما ينبغى عمله فى هذه الحالة، وإنما هى تكمن فى المنطق والعقل الذى يدير الملف. ذلك أن نهج الاحتواء يتطلب عقلا سياسيا رشيدا، فى حين ان الشواهد تدل على أن العقل الأمنى هو الذى يمسك بالملف ويدبر أمره. لذلك فإننا قبل أن نفكر فى الخطوات التى يتعين اتخاذها للاحتواء يجب أن نحسم الاختيار، بحيث نحدد ما إذا كنا ننطلق من الرؤية الأمنية أم المعالجة السياسية، وتلك ليست مشكلة التعامل مع ملف الشباب وحده، ولكنها مشكلة مصر كلها فى الوقت الراهن.