فهمي هويدي
حين أذاع أحد الإعلاميين خلاصة حوار خاص دار بينه وبين الدكتور باسم يوسف، انتقد فيه الأخير الرئيس عبدالفتاح السيسى، وترتب عليه تقدم أحد المحامين ببلاغ للنيابة يطالب بإسقاط الجنسية عن باسم يوسف، فأغلب الظن أن الرجل تصور إنه بوشايته أدى واجبه كإعلامى «وطنى».
وحين قرر وزير الأوقاف الذى يرأس بعثة الحج ترحيل أحد الحجاج فى نفس الوقت، لأنه انتقد الحكام العرب فى الحرم المكى، فإن الرجل أراد بدوره أن يثبت وطنيته والتزامه بتعليمات الضبط والربط فى الحج. ومن المصادفات إن الحدثين وقعا بعد الإعلان عن الترتيبات الأمنية الاستثنائية، التى سيجرى تطبيقها فى الجامعات المصرية هذا العام، التى من بينها التنسيق مع الطلاب «الوطنيين» والاتفاق معهم على أن يتولوا الوشاية بزملائهم «المشاغبين»، الذين يحرضون على الاضرابات والتظاهر.
وطبقا لما نشرته وسائل الإعلام المصرية فإن الإجراء ذاته سوف يتبع مع الأساتذة أيضا، الذى عُدل قانون الجامعات بحيث خول لرئيس الجامعة سلطة فصل المشكوك فى وطنيته منهم دون عرضه على مجلس التأديب، ومصادر تلك المعلومات لن تخرج عن حدود وشايات الطلاب وتقارير الأجهزة الأمنية. ولأن الشك وليس البراءة صار الأصل، حتى بالنسبة للأساتذة الذين يقومون على إعداد الأجيال الجديدة، فإنه سيتم تفتيش الجميع بلا استثناء عند دخولهم إلى الحرم الجامعى، طبقا لتصريح رئيس جامعة الإسكندرية يوم الاثنين ٢٩/٩.
اختراق المؤسسة الأمنية لمختلف قطاعات المجتمع ليس جديدا فى مصر، وربما كانت له أسبابه التى تبرره فى بعض الأحيان، بوجه أخص فإنه فى الظروف التى تمر بها مصر الآن التى انحازت خلالها السلطة إلى الحلول الأمنية دون السياسية، حدث تطوران مهمان، أولهما التوسع الكبير فى دور المؤسسة الأمنية، الذى لم يعد متقدما على دور السياسة فحسب، وإنما صار متقدما على دور القانون أيضا. التطور الثانى تمثل فى الجهر بدور «الأمنجية» وإضفاء الشرعية عليه إلى الحد الذى جعل الانتساب إلى المؤسسة الأمنية من معايير «الوطنية» وتجلياتها.
فى المحيط الإعلامى الذى أعرفه منذ أكثر من نصف قرن، كان الصحفى الذى يعمل لصالح الأجهزة الأمنية يخفى مهمته، وحين يكتشف أمره تحت أى ظرف فإنه يصبح محلا للاحتقار والاستهجان والنفور، لكن الأمر اختلف كثيرا الآن، حتى شاع مصطلح الصحفى «الأمنجى»، وأصبحت الإشارة إليه أمرا عاديا حتى على مستوى رؤساء التحرير. وفى بعض الأحيان بدا أن نموذج «الأمنجى» هو الأصل، وغدا غيره شذوذا واستثناء. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن حيازة ذلك اللقب باتت من الفضائل التى تضعها السلطة فى ميزان حسنات المرء، الأمر الذى يفتح أمامه الأبواب ويتيح له فرص الترقى والثراء والشهرة، فضلا عن الانتساب إلى أهل الثقة والحظوة. وقد سمعت أحدهم، وهو يعلن على الملأ من خلال برنامجه التليفزيونى إنى فعلا «أمنجى»، وإنه يتشرف بذلك ويفخر به، لأنه بذلك يخدم بلده، (لم يسأله أحد: لماذا لا يتفرغ للقيام بتلك المهمة «الوطنية» من خلال المؤسسة الأمنية التى يعمل لصالحها، ولماذا يستمر فى خداع الناس ويقدم نفسه باعتباره منتسبا إلى مهنة أخرى).
الأمر ليس مقصورا على الوسط الإعلامى بطبيعة الحال، رغم أنه المجال الذى بات يعج بـ«الأمنجية»، حيث جرى التركيز عليه نظرا لخطورة الدور الذى يقوم به الإعلام فى تشكيل الرأى العام. ذلك إننا وجدنا حضورا لافتا لـ«الأمنجية» فى مختلف المجالات، حتى تلك التى حفظ لها القانون والدستور استقلالها وحصنها ضد تغول السلطة السياسية، وهى حصانة وفرت للمؤسسات المعنية تاريخا مشرفا وهيبة خاصة، جعلت المجتمع يضفى عليها المقامات الرفيعة ويتوارث وصفها بالشموخ والكبرياء.
حين غابت أهم قيم الممارسة الديمقراطية، فتلاشى دور المؤسسات وتراجعت قيمة القانون وهبط سقف الحريات العامة، ماتت السياسة، ما عاد ممكنا أن يرتفع صوت فوق صوت مؤسسة الأمن. الأمر الذى يسوغ لنا أن نقول إن شعار الشرطة فى خدمة الشعب طرا عليه تعديل جعله أصدق فى التعبير عن الواقع، بحيث أصبح الشعب فى خدمة الشرطة، ومن ثم فإننا انتقلنا إلى أزهى عصور البصاصين، وهو ما رأيناه فى الصورة التى رسمها البريطانى جورج أورويل فى مؤلفه «١٩٨٤» وقدم فيها دولة الأمنجية على أصولها.
هذه التفاصيل تستدعى أمامنا قضيتين، الأولى تتعلق بواقع يمثل تراجعا عما توقعناه بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وتمنينا أن ينسينا الذى فات ويطوى صفحته، والثانية تتعلق بالقيم التى نربى عليها الأجيال الجديدة التى تهيأ لدور الأمنجية فى الجامعات، وهى التى نراهن على دورها فى إقامة المجتمع الديمقراطى القوى، الذى قضينا أعمارنا ونحن نحلم به، وربما رحلنا عن الدنيا دون أن نراه بأعيننا ونلمسه بأناملنا. وذلك إذا صح فإنه يصيبنا بالحسرة مرتين، مرة على أعمارنا التى أنفقناها دون أن نحقق لبلدنا ما تمنيناه، رغم أننا لم نقصر فى ذلك والله، ودفعنا له الثمن مقدما وباهظا. ومرة على أبنائنا الذين قد يلحقون بنا دون أن يروا بدورهم لذلك الحلم أثرا.. أدعو الله أن يصبح أحفادنا أفضل حظا من أجدادهم وآبائهم.