فهمي هويدي
ذنب الذين صعقوا بسبب الأمطار والذين دمرت بيوتهم أو حياتهم سيظل فى رقابنا جميعا إذا اكتفينا بمصمصة الشفاة والإعراب عن الحزن وشغلنا بالتعبير عن الضجر والبحث عن كبش فداء لتلبيسه التهمة والتضحية به. ولن ننجو من الشعور بالذنب إلا إذا اعترفنا بأن بيتنا ــ فى جانب منه على الأقل ــ من زجاج ــ ولا نريد بذلك ان نجلد أنفسنا لأن ذلك الاعتراف هو الخطوة الأولى على طريق التطهير من الوزر، الذى يفتح الباب للانتقال من الاستسلام للحزن إلى استعادة الوعى والهمة واستنفار طاقات الإصلاح.
تفيدنا الحكمة الصينية فى ذلك، إذ ترى فى كل محنة أو أزمة وجها آخر يرى فيها فرصة. ذلك أنها يمكن ان تظل كارثة تستجلب مشاعر الأسى أو الصدمة، كما يمكن أن تعتبر كاشفة عن عوج أو ثغرة تنبه إلى خلل جدير بالإصلاح. وفى الحالة الأولى يصبح المرء أسير الانفعال أما فى الحالة الثانية فإنه يستعيد توازنه ويعمل عقله ويحاول أن يستخلص درس المحنة وعبرتها.
فى مصر لا نملك ترف التباكى والاستسلام للأحزان، كما انه ليس من الحكمة أو المروءة ان ينتهز بعضنا الفرصة لتصفية الحسابات وشيطنة الخصوم، ذلك أن التصرف الجاد والمسئول يفرض على الجميع أن يبدأوا برصد مصادر الخلل التى ظهرت بعد سقوط الأمطار للانتقال إلى مرحلة العلاج بعد ذلك. ذلك أن الصور الكارثية التى ملأت الصحف للبنايات والمرافق، والأخبار التى حدثت عما أصاب مزارع الفاكهة وغيرها من المحاصيل إضافة إلى مزارع الدواجن هذه كلها بمثابة صور «أشعة» لواقع الخدمات المتردى. وهذه الأشعة تحتاج إلى قراءة وتحليل لكى يتولى أهل الاختصاص بعد ذلك اتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تكرار الكارثة.
لقد كنت أحد الذين حاولوا لفت الانتباه إلى حالة التردى التى تعانى منها قطاعات الخدمات والمرافق، حين عانت طويلا من الإهمال والفساد، حتى أصبحت كلها آيلة للسقوط وبعضها سقط وانهار فعلا ويحتاج إلى إعادة بناء من جديد، وتلك مهمة كبيرة تحتاج إلى طاقات ضخمة ووقت طويل وجهود مخلصة لا تعرف الكلل، ومتابعة ورقابة مستمرة طول الوقت، وتلك مهمة أكبر من ان تنهض بها القوات المسلحة، التى اعتدنا اللجوء إليها فى الملمات، لأن ذلك يستغرق وقتها كله بحيث لا يتبقى منه شىء لمهامها الأساسية.
أتصور أن الأزمة ستتحول إلى فرصة حقيقية إذا دُعى أهل الاختصاص والخبراء إلى اجتماع أو مؤتمر يناقش ثلاث نقاط أساسية. الأولى تتمثل فى تحديد الثغرات التى كشفت عنها موجة الأمطار والسيول. الثانى وضع برنامج لصيانة وتجديد المرافق والخدمات التى تقدم إلى الجمهور. الثالث إعادة النظر فى أولويات المشروعات الجارى تسويقها والحديث عنها، بحيث تعطى الأولوية للمشروعات التى تمس المصالح المباشرة للجماهير، وتقدم على غيرها من المشروعات العملاقة التى قد تكون مهمة حقا ولكن تلك الأهمية تتراجع أمام ماكشفت عنه الأمطار والسيول من عورات.
إحدى مشكلات مصر الراهنة تتمثل فى غموض أو غيبة الدور المؤسسى للأطراف التى تتصدى لتلك المهام، فنحن لا نعرف الجهات التى تقرر تلك الأمور، ولا تلك التى تتولى المساءلة والمحاسبة عن أوجه التراخى أو القصور. أدرى أن هناك رغبة قوية لتحقيق الإنجاز، وليس فى ذلك ما يشين بطبيعة الحال إلا فى حالة واحدة هى أن يكون ذلك مؤديا إلى تراجع التصدى للمهام العاجلة التى تهدد مصالح الناس وبعضها يهدد حياتهم.
إن التفرقة بين ما هو عاجل وما هو ضرورى تحتاج إلى ميزان وثيق فى اتخاذ القرار. ووضوح الرؤية عنصر أساسى فى ضبط ذلك الميزان. ذلك أنه يمثل الضوء الهادى الذى يحدد المسار ويرصد الأهداف ويسهم فى ترتيب الأولويات. فى هذا الصدد فإننى لا أخفى شعورا بعدم الارتياح إزاء تكرار الحديث عن أن الشعب فى مصر لم يجد من يحنو عليه. لأنه تعبير عاطفى وغير سياسى. وخطورته تكمن فى أن الحنان ينطلق من رؤية أبوية ويتطلب مزاجا رائقا ورغبة خيِرة فى العطاء. وتلك مشاعر متروكة لحسابات الطرف المبادر، فإن شاء أقدم وإن شاء أحجم. لكن ما نحن بإزائه موقف مختلف تماما. نحن بإزاء حقوق للناس وليس عطفا عليهم، وحديثنا عن واجبات وليس عطايا أو تبرعات. والوفاء بتلك الحقوق وأداء تلك الواجبات هو مناط المشروعية وشرط البقاء.