بقلم فهمي هويدي
لا مفر من الاعتراف بأن عناصر النخبة أصبحت عبئا على الديمقراطية حتى غدت تمثل الحلقة الأضعف فى الفضاء السياسى المصرى.
(١)
يوم السبت الماضى احتفل حزب التجمع بمرور أربعين عاما على تأسيسه (عام ١٩٧٦) باعتباره منبرا لليسار وصياغة منقحة للحزب الشيوعى الذى بدأ نشاطه فى مصر عام ١٩٢٠، فى أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكانت المناسبة فرصة للاطلاع على مسيرة الحزب الذى يمثل بنائب واحد فى مجلس النواب الحالى. ولأن ضمور الحزب وتراجع شعبيته خصوصا فى الأوساط العمالية والكادحة التى يفترض أن تمثل جمهوره الأصلى، فإن تفسير ذلك التراجع ظل شاغلا لبعض قياداته ومعهم رموز تحالف القوى اليسارية. وقد عرضت جريدة «المصرى اليوم» فى عدد الأحد ١٠/ ٤ لآراء نفر منهم فى هذا الصدد. وأثار انتباهى ما ذكره حسين عبدالرازق عضو المكتب السياسى لحزب التجمع حين أرجع أزمة الحزب إلى عوامل عدة منها الضربات الموجعة التى وجهتها إليه السلطة، وتماهى قيادة الحزب مع السلطة بعد عام ٢٠٠٨. مدحت الزاهد القائم بأعمال رئيس حزب التحالف الشعبى أشار إلى دور القبضة الأمنية، وشدد على فكرة افتقاد التجمع لبوصلة الخط السياسى، عندما قام بمهادنة السلطة والتخلى عن الحريات وحقوق الإنسان مقابل الانخراط فى محاربة الإرهاب. صلاح عدلى الأمين العام للحزب الشيوعى أرجع الأزمة إلى الأسباب ذاتها مضيفا نقطتين، الأولى أن أحزاب اليسار اختلفت فى تحديد الخصم الذى تواجهه. فحزب التجمع اعتبر أن الإسلاميين هم الخصم الوحيد (متبنيا موقف السلطة)، وثمة تيار آخر اعتبر أن السلطة هى الخصم الوحيد فى حين أن تيارا ثالثا ارتأى أن معركة اليسار ضد الاثنين ولا مفر من النضال ضدهما. النقطة الثانية أن الرجل نبه إلى أن الضعف ليس من نصيب اليسار وحده لأن جميع القوى السياسية فى مصر تعانى منها بدرجة أو أخرى.
(٢)
النقطة الأخيرة قد تكون أكثر دقة إذا قلنا إن التشخيص ينطبق بدرجات متفاوتة على جميع أحزاب التيار المدنى التى تتصدر المشهد السياسى الآن. وأفرق هنا بين أن تقود تلك الأحزاب أو تشارك فى القرار السياسى. وبين أن تجلس فى الصف الأول لمقاعد المتفرجين على المشهد السياسى. والصدارة التى أعنيها تنصب على الحالة الأولى دون الثانية. ذلك أن التماهى مع السلطة وفقدان البوصلة والتخلى عن القيم الأساسية المتعلقة بالحرية والتعددية وحقوق الإنسان وغير ذلك مما نعتبره ثوابت للمسار الديمقراطى وركائز للمجتمع المدنى، ذلك كله تراجع فى أولويات تلك الأحزاب بدعوى الانخراط فى مكافحة الإرهاب والتفرغ لإنجاز تلك المهمة المصيرية ولأن الإرهاب صار عنوانا للإسلام السياسى الذى رفع شعار الإسلام هو الحل فإن فصائل التيار المدنى شكلت ائتلافا تحالفت فيه مع القوات المسلحة والشرطة ورفعت شعار «الإسلاميون هم المشكلة» وتقدمت مسيرة ذلك التحالف ابتداء من ٣٠ يونيو عام ٢٠١٤ على النحو الذى يعرفه الجميع ووصف لاحقا بأنه «ثورة»، قال البعض إنها مكملة لثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، فى حين قال آخرون إنها نسخت تلك الثورة وصوبت مسارها.
تحالف الأحزاب المدنية مع المؤسستين العسكرية والأمنية انخرط فيه إلى جانب اليسار مجموعات القوميين والليبراليين والناصريين وكل من رفض التيار الإسلامى أو خاصمه. وأنبه هنا إلى أنه ظهر بين هؤلاء جميعا أفراد لم يتخلوا عن مبادئهم رغم معارضتهم للإسلام السياسى أو خصومتهم مع الإخوان. وظل هؤلاء يمثلون استثناء خفيض الصوت وعديم التأثير فى مسار ومواقف القوى المدنية.
ثمة ملاحظتان يجدر الانتباه إليهما فى هذا الصدد. الأولى أن ثورة ٢٥ يناير تراجع فيها دور النخبة فضلا عن أنها كانت بغير قيادة. أما ائتلاف ٣٠ يونيو فقد تصدرته النخبة التى ظهرت بعد الثورة وسلمت قيادها للمؤسستين العسكرية والأمنية. الثانية أن ثورة يناير رفعت شعارات اختزلت أشواق الجماهير فى العيش والحرية والكرامة الإنسانية. أما ائتلاف يونيو فإنه أعطى الأولوية لهدف الخلاص من حكم الإخوان وقدمه على أى أهداف أخرى. لذلك اعتبرت الأولى ثورة الجماعة الوطنية فى حين صار الائتلاف المذكور تعبيرا عن حسابات الجماعة السياسية المدنية المتحالفة مع المؤسستين العسكرية والأمنية.
(٣)
الصراع ضد الإسلام السياسى ربما كان مفهوما ومحتملا لو أنه ظل فى حدود التنافس الشرس بين القوى السياسية، بأساليبه المشروعه أو حتى غير المشروعة. إلا أن الأمر اختلف والخسارة صارت أكبر وأفدح حين أصبح الصراع الشاغل الأساسى والقضية المركزية للقوى المدنية. ذلك أنه حين اتخذ منحى استئصاليا، عمدت فى ظله تلك القوى إلى تصفية حساباتها التاريخية كما سعت إلى الانفراد بالساحة، فإنها لم تخسر نفسها فحسب وإنما صارت الخسارة الأكبر من نصيب الوطن وحلمه الذى ثار من أجله فى ٢٥ يناير. أشرت توا إلى أن تلك الأحزاب خسرت نفسها لأن التحالف الذى التحقت به واستقوت بمكوناته اضطرها إلى التماهى مع السلطة حينا ومع المؤسسة الأمنية فى أحيان كثيرة. وحين رضيت بموقع التابع (أو البوق) وليس الشريك، فإنها فقدت شرعيتها وألغت مبرر وجودها. وهو ما أيدته شواهد الواقع حين وجدنا أن تلك الأحزاب تخلت عن شعاراتها ومبادئها المعلنة، وعصفت بها بمجرد أن لاحت لها فرصة التماهى مع السلطة وتصفية حساباتها مع تيار الإسلام السياسى. وحين فعلتها الأحزاب المدنية فإنها عملت على إقامة ديمقراطية اللون الواحد. التى سوغت إقصاء «الأغيار» وإلغاءهم من الحياة السياسية والمجال العام. وحين أقدمت على تلك الخطوة فإنها استلهمت وأحيت النموذج السوفيتى الذى اعتنى بتوفير هياكل الممارسة الديمقراطية، فى حين فرغها جميعا من دورها ووظائفها. فتشكلت الأحزاب وأجريت الانتخابات ونصبت البرلمانات وأقيمت مختلف المؤسسات «المستقلة»، لكن كل ذلك تم برعاية وتحت عباءة السلطة والحزب الحاكم وهو ما لمسناه فيما تكشف عن دور الأجهزة الأمنية فى الترشح لانتخابات مجلس النواب المصرى وتشكيل الائتلافات التى تضمن السيطرة على الأغلبية البرلمانية.
الخسارة الأكبر التى لحقت بالوطن وأسهمت فيها الأحزاب المدنية تمثلت فى إجهاض ثورته التى أطلقت فى 25 يناير. فلا تحققت الدولة المدنية الديمقراطية التى كانت حلما راود الجميع. ولا احتفظت بموقعها الريادى فى العالم العربى. وحين تبدد حلم الدولة المنشودة بدعوى التصدى لإعصار الإرهاب، فلم يعد هناك محل للحديث عن تحديات الأمة. من قضية فلسطين إلى الوحدة العربية مرورا بالخروج من الهيمنة الغربية. وهو ما فتح الأبواب واسعة لإزالة آثار الربيع العربى وحلول سلسلة من الكوارث التى ضربت المنطقة وكان التشرذم الذى أدى إلى ظهور «داعش» أبرزها، والتمدد الاستيطانى الإسرائيلى فى المقدمة منها وتنامى الصراع المذهبى من بينها.
(4)
للزعيم السوفيتى ومؤسس الحزب الشيوعى فلاديمير لينين مقولة شهيرة نبه فيها إلى أن المثقفين أقدر الناس على ارتكاب الخيانة، لأنهم أقدر الناس على تبريرها. ورغم أن الخيانة كلمة شديدة أتردد فى استخدامها. إلا أننى أفهم أنها ليست مقصورة على خيانة الوطن ولكنها تشكل أيضا خيانة المبادئ والعهود. ورغم أن المقولة خطرت لى أثناء متابعة الموضوع وتقليب أوجهه. إلا أننى أفضل استخدام كلمة التراجع أو التخلى فى وصف دور النخبة، الأمر الذى يدفعنى إلى إعادة صياغة المقولة بحيث تعتبر المثقفين أجرأ الناس على التخلى عن المبادئ لأنهم أقدر الناس على تبرير مسلكهم، وقد تابعنا تلك الجرأة فى المشهد السياسى المصرى، حيث طرحت فكرة «الضرورة» لتبرير ما لا ينبغى القبول به وتبريره، وحين جرى تمرير الاستثناءات التى أدت إلى تكبيل الحريات العامة بدعوى أن الأوضاع الاستثنائية تتطلب اللجوء إلى إجراءات استثنائية، وحين قبل البعض بتكميم الأفواه وإسكات أصوات النقد بدعوى أن مصر تخوض حربا دفاعا عن وجودها ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وحين استخدم مصطلح الإرهاب لتبرير انتهاكات حقوق الإنسان وحين.. وحين.. وحين.. إلخ.
الأمثلة كثيرة وأحدثها تنافس بعض عناصر النخبة فى الدفاع عن موقف وزارة الداخلية فى موضوع الباحث الإيطالى جوليو ريجينى الذى عذب وقتل بعد اختطافه فى 25 يناير الماضى. فسمعنا الأكاديمى الليبرالى الذى نفى ضلوع الداخلية فى الحادث لأنها تقوم بتعذيب المصريين فقط ولا تتعرض للأجانب، وأتحفنا القيادى اليسارى برأى آخر ادعى فيه أن الإيطالى جاسوس لأجهزة بلاده وأن الإخوان ربما كانوا وراء اختطافه وتعذيبه من خلال اختراقهم لبعض الأجهزة المصرية.
رغم أن ثمة بوادر للصحوة لاحت فى الآونة الأخيرة بين عدد من مثقفى التيار العلمانى والمدنى، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة الدور السلبى الذى قامت به أغلبيتهم فيما آلت إليه الأمور وحين يكتب تاريخ مرحلة ما بعد 30 يونيو، فأغلب الظن أن تداعيات تحالف التيار المدنى مع المؤسستين العسكرية والأمنية سوف يحتل أحد أهم فصوله. أما انكشاف النخبة ورسوب الأغلبية الساحقة فى اختبار الدفاع عن ضمير المجتمع وأحلامه فسيكون له فصل آخر صادم ومثير، أما نخبة التيار الدينى فلى معها كلام آخر، لم أجد من الإنصاف أو المروءة الخوص فيه الآن، لأن الآلاف منهم فى السجون والمعتقلات الأمر الذى يصادر حقهم فى مناقشة ما ينسب إليهم أو رده.