المحاكمات التى تتم من خلال وسائل الإعلام أصبحت ظاهرة عامة فى مصر تتفاقم كل حين. وأحدث تجليات ذلك التفاقم تمثلت فى نشر مذكرة إحالة رئيسة الاستئناف ورئيس نادى القضاة السابق المستشار زكريا عبدالعزيز إلى المحاكمة. وهى التى تضمنت شهادات وادعاءات وتقارير وغير ذلك من البيانات التى يفترض أنها متوافرة لدى قاضى التحقيق والدائرة المعنية.
ولا تفسير لتسريب المذكرة ونشرها على الملأ سوى أنها محاولة للرد على التعليقات التى نشرتها بعض الصحف وعبرت عن التعاطف مع المستشار عبدالعزيز، وسجله الحافل بالنضال دفاعا عن استقلال القضاء وتضامنا مع ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١.
من هذه الزاوية فإن تسريب المذكرة التى نشرتها صحيفة «الوطن» على صفحتين كاملتين يوم الخميس الماضى ١٦/٤ جاء بمثابة محاولة لتشويه صورة الرجل، وردا على مواقف الكتاب الذين ساندوه وتحدثوا عن موقفه النضالى. إلا أننا ينبغى أن نفرق بين انطباعات شخصية وذكريات يسجلها بعض الكتاب الذين عرفوا المستشار عبدالعزيز، وبين تسريب مذكرة تضمنت ادعاءات وشهادات آخرين توفرت لدى قاضى التحقيق أثناء مزاولته لمهمته حاولت إدانة الرجل وعزله من وظيفته.
هذا الفرق الكبير بين الرأى الشخصى ومذكرة الادعاء يثير عدة نقاط فى مقدمتها ما يلى:
• إن الأعراف المهنية تفرض على الجريدة التى تنشر ادعاء يسىء إلى مواطن على صفحاتها أن تفتح تلك الصفحات لصاحب المصلحة الذى جرى تشويهه لكى ينشر دفاعه عن نفسه الذى يرد به على ما صدر بحقه.
وإذا ما نشرت الصحيفة اتهاما لشخص وحجبت رده فإن ذلك يعد تحيزا يفقد الصحيفة أمانتها وينسب إليها التواطؤ لصالح طرف ضد الطرف الآخر. وإذا ما تم ذلك فإنه سينقل المحاكمة إلى الشارع، ويحول وسائل الإعلام إلى منصات للتقاضى، بما يستصحبه ذلك من فوضى تلغى دور القضاء وتعبث بميزان العدل.
• إن نشر مذكرة الادعاء عبر وسائل الإعلام يهدر أحد أهم ضمانات تحقيق العدل. ذلك أنه بمثابة سعى لتعبئة الرأى العام لصالح طرف ضد آخر، الأمر الذى يشكل عنصرا ضاغطا على إرادة القاضى، فى حين أن اعتبارات النزاهة والعدل تقتضى أن يمارس القاضى مهمته وهو خالى الذهن تماما من ضغط عليه. وإذا كان رفض ضغط السلطة مفروغا منه، فإن ضغط الرأى العام مرفوض بدوره. بل إن القاضى ينبغى أن يتنحى عن نظر القضية إذا واجه ضغطا نفسيا من داخله يؤثر على حياده فى نظر الموضوع، كأن يكون قد اشترك فى التحقيق وهو وكيل نيابة، أو إذا كانت له أى صلة بأحد طرفى النزاع.
• إن نشر قرار الإحالة وفتح الباب لمناقشة وقائع قضية منظورة أمام القضاء يشكل مخالفة جرمها قانون العقوبات. إذ ينص فى المادة ١٦٨ على معاقبة كل من حاول التأثير فى القضاة الذين يناط بهم الفصل فى دعوى مطروحة أمام أى جهة من جهات القضاء. (العقوبة مقررة فى المادة ١٦٧ وهى الحبس ستة أشهر وغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه، أو إحداهما). وفى نص المذكرة التفسيرية لهذه المادة أن المقصود بها منع نشر أخبار فى الدعوى من شأنها أن تشكل رأيا عاما ضاغطا يؤثر على حياد القاضى.
فى هذه النقطة يسجل المستشار سمير حافظ المحامى ورئيس الاستئناف السابق مفارقة مهمة خلاصتها أننا فى مصر درجنا على الخوض فى مناقشة وقائع القضايا عبر وسائل الإعلام أثناء نظرها، فى حين شاع بيننا أن التعليق على الأحكام محظور. فى حين إن العكس هو الصحيح تماما. إذ المحظور هو إجراء تلك المناقشة أثناء عرض القضية لتجنب التأثير على القاضى. والمباح هو مناقشة الحكم بعد صدوره، حتى إذا تم ذلك فى وسائل الإعلام. وهو ما نصت عليه المذكرة التفسيرية للقانون.
فى هذا الصدد استدل أكثر من قاض بما حدث أثناء نظر قضية هشام طلعت مصطفى الذى اتهم بقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم (عام ٢٠٠٨). إذ لاحظ القاضى المستشار المحمدى قنصوة أن المحاكمة كانت تتم على درجتين. إذ كان هو ينظرها فى الصباح. فى حين يناقش المحامون وقائعها فى أحد البرامج التليفزيونية المسائية. إزاء ذلك لم يجد الرجل مفرا من إصدار قرار بسرية الجلسات حتى يوقف ضغوط حملات التعبئة التى كانت تتم آنذاك من خلال التليفزيون.
• إن النشر بالطريقة التى تم بها لا يهدر أعراف التقاضى فحسب، ولكنه يهدر أيضا بعضا من تقاليد مهنة الصحافة. ذلك أنه يحولها من منبر يخدم القارئ ويسهم فى إذكاء وعيه، إلى ساحة لتصفية الحسابات وتدبير المكائد، التى تشوه وعى القارئ وتضلله. كما أنها تقحمه فى صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل. وفى الحالة التى نحن بصددها فإن الثورة المضادة هى الطرف الوحيد الفائز فى هذه المعركة.
إن أزمة النخبة أصبحت تشكل أحد معالم أزمة الوطن، والمكائد وحملة التشويه والتنكيل التى يتعرض لها القضاة الشرفاء من جانب تحالف الثورة المضادة خير شاهد على ذلك. وللأسف فإن تلك الحملة حققت نجاحا أدى إلى عزل ٤١ من أشرف القضاة من وظائفهم. وكان ذلك النجاح خصما من رصيد العدالة فى مصر، بقدر ما أنه شكل إساءة بالغة للنظام القائم.