فهمي هويدي
يبدو أنه لم يعد هناك سبيل لإعلان الرغبة فى التغيير السلمى سوى الإضراب عن الطعام. فإذا أراد الناشطون أن يخرجوا إلى الشارع فى مظاهرة يعبرون فيها عن مطالبهم فإن مصيرهم بات معروفا. ذلك أن الاعتقال بالقانون بات أبسط إجراء يمكن أن يتخذ بحقهم. وبعد الاعتقال هناك ما بين عشرة وخمسة عشر تهمة جاهزة توجه إلى كل واحد منهم، فضلا عن أن أحدا لا يضمن أن هؤلاء سيذهبون سالمين إلى أقسام الحجز، لأن السيناريو الرائج يتهمهم بالاعتداء على الشرطة التى ستضطر لأن «تدافع عن نفسها» بقنابل الغاز المسيل للدموع والخرطوش، والنتائج بعد ذلك معروفة. ولن يقف الأمر عند حدود الاعتقال وتلفيق القضايا، ذلك أن الذين يلقى القبض عليهم فى المظاهرات يتعرضون لتعذيب أشد من غيرهم، لأن الأجهزة الأمنية لا تكتفى باحتجاز المتظاهرين، ولكنها تسعى فى كل مرة للتعرف على العناصر التى تقف وراءهم. الأمر الذى يدفعها إلى استنطاق كل واحد منهم بمختلف السبل للحصول على تلك المعلومات. ولعلك لست بحاجة لأن تعرف مزيدا من التفاصيل فى ذلك.
سمعت أحد مقدمى البرامج التليفزيونية وهو يقول بثقة شديدة إنه يتحدى من يدعى أن شخصا اعتقال لمجرد أنه تظاهر، كما أنه يتحدى أى شخص يدعى أن فى مصر معتقلين سياسيين. وكلامه صحيح على الورق، لأن المتظاهر حين يلقى القبض عليه فإن قائمة التهم الجاهزة له المشفوعة بتحريات عناصر الأمن الوطنى المعدة سلفا بحيث يضاف إليها اسم الشخص فى كل مرة، هذه الترتيبات تحول الشخص من معتقل إلى متهم فى غمضة عين، وبالتالى فإن كلام صاحبنا يبدو صحيحا. وهو ينطبق على الستة عشر ألف شخص موجودين فى السجون الآن، حيث صاروا جميعا متهمين. علما بأن قانون الإجراءات الجنائية يسمح الآن بتمديد حبس أى متهم مقدم إلى المحاكمة إلى أجل غير مسمى.
إذا عزف المواطن الغاضب عن مغامرة التظاهر وفكر فى أن يحتج بواسطة بيان مطبوع يعبر فيه عن احتجاجه، فإنه لن يسلم بدوره من الاعتقال والإلحاق بأى قضية جاهزة.
وكما يذكر المحامون فإن أمثال هؤلاء لا يتعرضون للتعذيب عامة أثناء الحبس. وفى الغالب فإنهم يتعرضون لأحكام مخففة نسبيا، سنتان أو ثلاثة على الأكثر. وهذا المصير ينتظر أيضا من يحاول أن يعلق ملصقا فى الشارع، ذلك أنه سوف ينضم على الفور إلى طابور المتهمين بإثارة الشغب وتعطيل المرور والاعتداء على رجال الشرطة، فضلا عن توزيع ملصقات تحرض على الجيش والشرطة وحيازة سلاح نارى.. إلى آخر التهم التى حفظناها.
الشاهد أن من يريد أن يعبر عن رأيه بصورة سلمية يفترض أن يحميها القانون لن يجد الأبواب موصودة أمامه فحسب، ولكنه لن ينجو من الاتهام المفتوحة نهايته على كل الاحتمالات. وحينئذ لا يكون أمامه سوى أحد احتمالين، الأول أن يختصر الطريق ويلجأ إلى العنف، لأنه إذا وجد نفسه متهما ومحبوسا فى كل الأحوال، فقد يجد أن حبسه جراء عنف أقدم عليه أفضل من حبسه دون أن يفعل شيئا، ولمجرد أنه ردد هتافا أو وزع بيانا أو ملصقا. الاحتمال الثانى أن يظل صاحبنا متمسكا بسلميته ومصرا على الدفاع عن قضيته، وحينئذ لن يجد سوى جسده يشهره فى وجه النظام الذى يعارضه. وفى هذه الحالة فإن إضرابه عن الطعام يكون الوسيلة الوحيدة التى يستطيع اللجوء إليها دون أن تتعلل السلطة بأية حجة لمعاقبته أو التنكيل به. صحيح أن الذين يضربون عن الطعام داخل السجون والذين تجاوز عددهم 58 شخصا قد يتعرضون لصور من الضغط والتنكيل من جانب سجانيهم. إلا أن ذلك لا يسرى على الأربعين شخصا الذين أضربوا عن الطعام خارج السجون تضامنا مع مظلوميه الأبرياء الذين تحتجزهم السلطة.
فى تراثنا الفقهى أن مراتب إنكار المنكر تتراوح بين الإنكار بالقلب أو باللسان أو باليد (ولكل مرتبة شروطها) لكنها المرة الأولى فيما أعلم التى يتم فيها الإنكار بالأمعاء الخاوية. حيث ذلك باب جديد للإنكار لم تعرفه خبرة المجتمع الإسلامى. وقد يكون بحاجة إلى اجتهاد جديد يحدد ضوابطه والمشروع فيه وغير المشروع. وقد سمعت من بعض أهل العلم من يؤيده باعتباره أقرب إلى العمليات الاستشهادية، ومن يعارضه باعتباره من قبيل قتل النفس ويميز فى بين العمليات الاستشهادية التى تتم فى مواجهة الأعداء، وبين قتل النفس احتجاجا على ظلم الأشقاء.
لكن أى جدل فقهى ينبغى ألا يصرفنا عن القضية الأساسية المتمثلة فى انسداد أفق التعبير عن الاحتجاج السلمى، الذى يضطر البعض إلى الإضراب عن الطعام، فضلا عن أنه يقدم ذريعة تقنع دعاة العنف بأن الخيارات ضاقت أمامهم بحيث لم يبق لهم سوى التغيير باليد وهدم المعبد على من فيه.