فهمي هويدي
من تنظيم المظاهرات إلى تنظيم الحكى، ومن تشديد القبضة الأمنية على الشارع إلى بسطها على الفضاء الالكترونى، ومن حماية المجتمع إلى مراقبته. هذه هى الرسالة التى تلقيناها من إنشاء وزارة الداخلية ما سمته نظام رصد المخاطر الأمنية لشبكات التواصل الاجتماعى. وهى الخطوة التى كشفت عنها صحيفة «الوطن» حين نشرت يوم الاثنين 2/6 كراسة الشروط الخاصة بمناقصة الداخلية التى دعت فيها الشركات المتخصصة لتقديم عروضها فى هذا الصدد. الحجة التى قدمتها الوزارة لإنشاء ذلك النظام هى أنها أرادت به مواجهة «الخطر المستطير والتحدى الأمنى الخطير» الذى باتت تمثله شبكات التواصل الاجتماعى. وفى عرضها لمظاهر ذلك الخطر المستطير فإن كراسة الشروط أوردت قائمة طويلة من الشرور بدءا من ازدراء الأديان والحض على الفسق والفجور ونشر الخرافات، انتهاء بنشر الشائعات وتشجيع التطرف والعنف والحشد للتظاهر والاعتصام (ذكرت كراسة الشروط بين الشرور «الدعوة للتطبيع مع الأعداء»، وهى اشارة محيرة لأن التطبيع مع اسرائيل حاصل بمقتضى اتفاقية السلام، الأمر الذى يثير سؤالا حول المقصود بالأعداء فى هذه الحالة).
الشاهد ان الداخلية بررت قرارها بأن الدافع إليه هو مواجهة خليط من الرذائل الاخلاقية والرذائل السياسية. وفى الاجواء الراهنة التى يتم فيها ترتيب اوضاع الرئاسة الجديدة، فإننا لا نبالغ كثيرا إذا قلنا ان الإشارة المتعلقة بالغيرة على الاخلاق كانت غطاء للجهد المراد بذله فى مراقبة الأنشطة السياسية، والدور الذى يقوم به النشطاء. إذ المطلوب هو التعرف على الاشخاص الذين يمثلون خطرا على المجتمع (النظام) وتحديد اتجاهاتهم وتحليل آرائهم، والتعرف على العلاقات التى تربطهم ببعضهم البعض. مطلوب ايضا تسليط الضوء على الموضوعات الأكثر شيوعا والأقوى تأثيرا على تلك الشبكات وتتبع مقالات الكتاب خلال فترات زمنية مختلفة... إلخ
بكلام آخر فإن كل اتصال يظن انه له خصوصية سواء من خلال الهاتف المحمول أو الانترنت أو الكمبيوتر ما عادت له الحصانة المستقرة فى الأذهان أو التى نص الدستور على حمايتها، ولم يسمح باختراقها الا لاعتبارات قضائية وبإذن النيابة. ولكن أذن الداخلية أصبحت طرفا ثالثا فيها دون أن يشعر المرء، أو يأذن القضاء، وتتولى التنصت على الملايين فى هذه الحالة شركات متخصصة تقوم بجمع المعلومات الخاصة بالأفراد وتزويد الداخلية بها. وقد اعد موقع صدى مصر دراسة حول الموضوع استعان فيها بآراء ببعض الخبراء الذين سلطوا اضواء مهمة على الحدث. من ذلك مثلا ان تنصت الداخلية على النشطاء ليس جديدا، على الاقل فمنذ عام 2008 دخلت المؤسسة الامنية على الخط اذ توافرت لها امكانيات تتيح لها التجسس على النشطاء، بالتعاون مع قطاع الاتصالات ممثلا فى شركات المحمول أو الانترنت. وحين تم اقتحام مقر أمن الدولة فى عام 2011 تم العثور على مستندات ومحاضر الاجتماعات التى كانت تتم بين الاجهزة الامنية وبين ممثلى الشركات العاملة فى مجال الاتصالات. وطوال الفترة الماضية كانت الداخلية تراقب الانترنت والكمبيوتر بوجه أخص، لكن الجديد فى الموضوع انها بالمناقصة التى كشف النقاب عنها مؤخرا أرادت ان توسع نطاق الرقابة بحيث تشمل أكبر دائرة ممكنة فى وسائل وقنوات الاتصال. بمعنى انها بصدد مراقبة الفيسبوك وتويتر ويوتيوب والصحف التى تظهر على النت. اضافة إلى مراقبة برامج المحمول مثل الحوارات والمناقشات التى تجرى بين الاشخاص عبر واتس آب وفايبر. المهم ان هذه الانشطة والاختراقات كلها تتم بطريقة سرية، ودون اعتماد على اية ادلة. ثم ان احدا لا يعرف اين تذهب تلك المعلومات التى تجمع عن ملايين البشر، ولا كيف سيتم توظيفها.
فى تقدير «صدى مصر» ايضا ان المناقصة تعكس خوف النظام من اى شىء مختلف فى المجال العام، خصوصا أن اغلب البنود المطلوب رصدها وفقا لكراسة الشروط لا علاقة لها بالإرهاب، وتضمنت معايير فضفاضة ومطاطة تتعلق اساسا بالحق فى المعرفة والتعبير، ثم ان المعلومات المطلوب جمعها هائل ويتطلب انفاق مئات الملايين من الجنيهات، الأمر الذى يشكل اهدارا لموارد الدولة. ذلك ان المبالغ الطائلة التى ستنفق فى شراء الاجهزة وفى حشد جيش الباحثين والمحللين، ستتبلور فى نهاية المطاف فى متابعة عدد محدود من مستخدمى الانترنت. وهو ما كان يتم فى السابق بتكاليف اقل كثيرا.
إن المادة 57 من الدستور تنص صراحة على ان «للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو مراقبتها الا بأمر قضائى مسبب ولمدة محدودة، وفى الاحوال التى يحددها القانون، كما تلتزم الدولة بحماية حق المواطنين باستخدام وسائل الاتصال العامة بكل اشكالها. ولا يجوز تعطيلها أو وقفها أو حرمان المواطنين منها بشكل تعسفى وينظم القانون ذلك».
التجسس الذى تقوم به المؤسسة الامنية، وزارة الداخلية أو غيرها على المواطنين يعصف بكل ذلك، ويتم منذ عهد مبارك بالمخالفة للقانون والدستور. والحاصل الآن لا يثبِّت ما كان فحسب ولكنه يطوره ويوسع من نظامه كثيرا بحيث لاتكون هناك أى قناة اتصال بين البشر بعيدة عن الاختراق والتنصت.
ان السؤال الذى يخطر على بال المرء وهو يلحظ ذلك الجهد الذى يبذل لتطوير المنظومة الامنية واحكام الرقابة والتجسس على الناس هو: لماذا لا نلمس جهدا مماثلا يبذل فى تطوير التعليم وتشجيع البحث العلمى وتحسين الخدمات الصحية التى تقدم لخلق الله؟. وهو سؤال لا اطرحه للاستفهام لأن اجابته معروفة، ولكنى أورده تعبيرا عن الاستنكار والحنق لا أكثر!