فهمي هويدي
أبصم بأصابعى العشرة على استهجان وازدراء كل من يمارس التطبيع مع الإسرائيليين. ولا أنسى أننى رفضت طوال سنوات ان أصافح زميلا فى «الأهرام» لأننى علمت أنه واحد من هؤلاء. معتبرا أنه بما فعله تورط فى نوع من «النجاسة» السياسية التى يصعب عليه أن يتطهر منها وستظل بمثابة وصمة عار تلاحقه إلى يوم الدين. مع ذلك استغربت رشق النائب توفيق عكاشة بالحذاء تحت قبة مجلس النواب لأنه استضاف السفير الإسرائيلى فى بيته. رغم أننى أقدر النائب كمال أحمد الذى فعلها وأتفهم أسباب غضبه، مع ذلك فلم أفهم لماذا خص زميله دون غيره بذلك التصرف. فى الوقت ذاته فإننى لا أتفق مع الذين تركوا الموضوع الأساسى وراحوا يتكلمون عن اللياقة والملاءمة وموقف اللوائح من استخدام فردة حذاء فى التعبير تحت قبة البرلمان عن موقف كان الرشق بالحذاء هو الوسيلة المناسبة، حيث لا نعرف فى الثقافة العربية سلاحا أدنى مرتبة منه. فضلا عن أن لنا خبرة سابقة فى استخدامه للإعراب عن النفور والازدراء، وأزعم فى هذا الصدد أن فى الموضوع قضية أكبر يتعين أن نواجهها بصراحة وشجاعة، وقد كسر تصرف النائب الذى فجر القضة الصمت المفروض عليها، الأمر الذى يرشحه لدخول التاريخ بحذائه الذى أفصح عن غيرته وانفعاله.
ما حيرنى فى الموضوع أن السيد عكاشة ليس أول المطبعين مع الإسرائيليين ولن يكون آخرهم. ولكنه يقف فى آخر طابور طويل لأفراد تشوهت مداركهم وخذلتنا ضمائرهم ولوثوا أيديهم بمصافحة الإسرائيليين. إذ سبقه فى الطابور آخرون من المسئولين وغير المسئولين، فضلا عن بعض المثقفين الذين تورطوا فى التطبيع ومارسوه بجرأة فاضحة. وكان الكاتب المسرحى الراحل واحدا من أشهرهم، حتى أنه حين توفاه الله قبل عدة أشهر تسابق كثيرون على رثائه وامتداحه كواحد من رسل السلام ودعاته. وكان وزير الثقافة أحدهم. ولم يشر أحد من قريب أو بعيد إلى عاره الذى ذهب به، وكأن التطبيع صار فضيلة وما عاد جريمة أو أنه صار جريمة تسقط بالتقادم.
السؤال الذى شغلنى هو لماذا تم رشق السيد عكاشة دون غيره من الواقفين فى طابور التطبيع والمروجين له؟ يكتسب السؤال أهمية أكبر إذا أدركنا أن بعض الدوائر الرسمية المصرية انخرطت فى التطبيع. ومنها من تجاوز حدوده بمراحل، ودخل فى مجالات أبعد تشير إليها التسريبات والتصريحات الإسرائيلية بين الحين والاخر. وكلها تتحدث عن تعاون وتنسيق بين القاهرة وتل أبيب يدعون أنه يتم فى محاربة الإرهاب. وهو ما أصبح غطاء للإرهاب الإسرائيلى الذى تمارسه فى الأرض المحتلة ومسوغا لزعم إسرائيل أنها أصبحت طرفا فى معسكر الاعتدال السنى الذى يسعى للقضاء على الإرهاب.
إزاء هذا الموقف الملتبس خطر لى أن يكون رشق السيد عكاشة بالحذاء قد تم لأسباب لا علاقة لها بالتطبيع أو زيارة السفير الإسرائيلى. حجتى فى ذلك أن زميله النائب الذى تقدر غيرته إذا كان قد أغضبته زيارة السفير فربما توقعنا منه أن يظل طول الوقت مستحضرا خزانة أحذيته ومستهدفا أمثاله بالرشق أينما ذهب، ولأن ذلك أمر مستبعد يفوق طاقته وقد يعرضه لما لا يحب، فإن احتمال وجود أسباب أخرى لتخصيص السيد عكاشة بالرشق يصبح قائما. يعزز ذلك الاحتمال ويقويه أن الرجل مستحق للرشق لأسباب أخرى عديدة تخللت مسيرته الإعلامية والسياسية. وهى حافلة بالمواقف التى لا سبيل لاستهجانها إلا بمثل ذلك الأسلوب الجدير به.
أيا كان الأمر فواقعة رشق الرجل بالحذاء التى احتلت عناوين الصفحات الأولى لأغلب الصحف الصادرة يوم الاثنين الماضى ٢٩/٢ تثير مسألتين مسكوتا عليهما على جانب كبير من الأهمية. الأولى تتعلق بمصير مقاطعة إسرائيل التى أصبحت عنوانا فارغ المضمون ينتسب إلى الماضى ويجرى العبث به فى الحاضر، من جانب قطاعات لا يستهان بها من المسئولين ورجال الأعمال والمثقفين. الأمر الثانى الأهم هو تحرير العلاقة بين مصر وإسرائيل فى الوقت الحاضر. وهو الملف الذى تثير حوله تصريحات المسئولين الإسرائيليين التى أشرت إليها لغطا كثيرا، وبعضه يسىء إلى الموقف المصرى ويشكك فيه. وأحسب أن حادثة الحذاء إذا أردنا أن نأخذها على محمل الجد تشكل مناسبة لكسر جدار الصمت الذى يحيط بالمسألتين، ومن ثم فتح الباب لمناقشتهما إما فى إحدى الجلسات العامة. أو فى داخل لجنة الشئون العربية أو الأمن القومى. وإذا ما حدث ذلك فسيكون الفضل فيه للحذاء وصاحبه. أما إذا انتهى الأمر بإجراء تحقيق داخلى حول مدى التزام العضو كمال أحمد بضوابط السلوك المقررة فى لائحة المجلس، فإن جدار الصمت سيظل قائما، وستتولى البيروقراطية دفن الموضوع بحيث لا يبقى أمام الغيورين من أمثال كمال أحمد أن يرفعوا شعار «الحذاء هو الحل»!