فهمي هويدي
إذا شاع الحديث عن الثأر والانتقام فى بلد، فعلى دولة العدل والقانون السلام. ذلك ليس خبرا جديدا، إلا أن الأجواء الراهنة فى مصر استدعت التذكير. بمضمونه الذى بات معرضا للتآكل والنسيان. ذلك أن من يتابع الخطاب السياسى والتعبئة الإعلامية المواكبة له لا تفوته ملاحظة تواتر تحبيذ فكرة الثأر والانتقام.
أدرى أن الرئيس السيسى قال إنه لن يكبل أيدى المصريين فى الثأر والانتقام للشهداء (فى خطبة الأحد أول فبراير)، إلا أنه كان يوجه حديثه فى حقيقة الأمر إلى الجيش والشرطة. وهو ما انتبهت إليه بعض الصحف التى صدرت فى اليوم التالى، فذكرت فى عناوينها إنه لن يكبل أيدى الشرطة والجيش، ولم تشر إلى كلمة «المصريين» التى استخدمها فى خطابه المرتجل. ولأن البعض لم يتسلم الرسالة الصحيحة فإننا فوجئنا فى اليوم التالى مباشرة (الاثنين 2 فبراير) بأن مجهولين فى بنى سويف أحرقوا سيارة ابن مرشد الإخوان الدكتور محمد بديع.
وأصدروا بيانا نسب إلى كيان جديد باسم «حركة حق شهدائنا فى سيناء» أعلنت فيه الحركة مسئوليتها عن الحادث. ولأنه كتب بالعامية المصرية فقد قال فيه مصدروه: خلُّوا شهداءنا المصريين يفرحوا. فهذه أولى عمليات القصاص لجنودنا وضباطنا الذين استحل الإخوان دمهم. وهى بداية القصاص، والقادم كثير. وفى حين ظهر البيان على فيس بوك مساء يوم الاثنين فقد لفت الانتباه أن جريدة «الوطن» أبرزت ضمن عناوين عددها الصادر يوم الثلاثاء 3/2 عنوانا ذكر أن: «الإخوان» تواصل التفجير و«حق شهدائنا» تحرق سيارة نجل المرشد. ورغم أن الاعتداء وقع فى العريش وأعلنت منظمة أنصار بيت المقدس مسئوليتها عنه. فإن الحركة المذكورة نسبته إلى الإخوان وقررت أن يكون ثأرها متمثلا فى إحراق سيارة ابن المرشد فى مقر إقامة الأسرة ببنى سويف.
النشر بدا تعميما للدعوة إلى الثأر والانتقام باعتبارهما من الأعمال المحمودة، إن لم تكن من متطلبات مكافحة الإرهاب التى قد تنسب إلى الأهالى، فى حين أننا نعلم أن البلطجية الذين يستخدمون لفض المظاهرات والاشتباك مع المعارضين هم القوى الفاعلة فى مثل تلك الأنشطة.
أدرى أيضا أن حملات التعبئة التى كشفت لنا التسريبات التليفزيونية عن بعض الأطراف التى تحركها سممت الأجواء بحيث شاع بين بعض القطاعات أن إحراق سيارة شخص برىء كل ذنبه أنه ابن مرشد الإخوان عمل مقبول أو مستحب. وربما أعرب البعض عن أسفهم لأن الابن المذكور لم يكن بداخل السيارة حين تم إحراقها. وهى مشاعر ليست بعيدة تماما عن الطريقة التى تعاملت بها جماعة داعش مع الطيار الأردنى حين اعتبرت أن إحراقه عمل جهادى تباهت به.
ما أقلقنى فى الأمر ليس أن سيارة ابن مرشد الإخوان تم إحراقها. لأن ثمة جوانب أخرى فى المشهد تبعث على القلق بصورة أكبر منها مثلا أن يقوم نفر من الناس بإصدار حكم بإحراق سيارة شخص أيا كان هويته عقابا له على ذنب لا علاقة له به. منها أيضا أن ينشر الخبر وتعممه وسائل الإعلام على الناس باعتباره سلوكا عاديا ومقبولا إن لم يكن عملا وطنيا ومرغوبا. منها كذلك أن يبرر البعض الجريمة ويعتبرونها أخذا بالثأر وعملا إيجابيا من جانبهم استهدف تصفية للحساب خارج القانون. وللعلم فإن الواقعة ليست جديدة تماما ولا هى فريدة فى بابها، لأن بعض محافظات الوجه البحرى بوجه أخص شهدت فى وقت سابق انتقامات من ذلك القبيل، أدت إلى إحراق بيوت وممتلكات ومحال تجارية، واضطرت بعض الأشخاص إلى تغيير مقار سكنهم وأماكن عملهم والانتقال إلى محافظات أخرى بعيدا عن متناول البلطحية الذين يقومون بأعمال القمع والترويع.
لدى أسباب أخرى للقلق والخوف على مستقبل التعايش والسلم الأهلى فى مصر. ذلك أنه إذا استهجنا سلوك البلطجية الذين يستخدمون فى قهر الآخرين بدعوى الانتقام والثأر، فينبغى أن يستوقفنا تكرار تلك الدعوة على ألسنة المسئولين فى الدولة. وإذا كانت وسائل الإعلام قد أزالت اللبس الذى حدث فى فهم مقصود كلام الرئيس السيسى، إلا أن ذلك لم يحدث بالنسبة لغيره من المسئولين، الذين أصبحوا يرددون المصطلح بغير حذر أو ضبط. ولابد أن يقلقنا أيضا أن الحديث عن الثأر والانتقام فى أغلب وسائل الإعلام صار طاغيا ومتواترا بحيث أنسى الناس أن ثمة قانونا وقضاء يتعين الرجوع إليه واحترامه، وثمة عدلا ينبغى أن يقوم فى البلد. ويتضاعف القلق حين يحدث ذلك فى ظروف تتراجع فيه قيمة القانون فى مصر. كما تتراجع مؤشرات الثقة فى القضاء بسبب سيل الأحكام التى باتت تنهال علينا حينا بعد آخر. وتثير فينا شعورا بالدهشة والصدمة. وسوف تستمر دهشتنا حين نجد أن هذه التفاعلات تحدث. فى حين يقف منها حراس القانون فى مصر موقف المتفرج. فلا نادى القضاة دافع عن القانون الذى كاد يسقط من الذاكرة، ولا نقابة المحامين عبرت عن غيرتها عليه بأى صورة. وأرجو ألا يفسر ذلك الموقف باعتباره نوعا من الاصطفاف الذى ينطلق من الاستجابة للهوى أو ترجيح تصفية الحسابات السياسية.
الأمر المقلق أيضا أن الدعوة إلى الانتقام والثأر يمكن أن تفتح الأبواب لشرور لا حدود لها. سواء حين تصبح جزءا من نسيج القيم السائدة فى المجتمع. أو حين يلجأ الطرف المجنى عليه إلى ذات الأسلوب، لكى يرد على الانتقام بانتقام مقابل. وهو بذلك يلقى فى الفضاء المصرى بذور فتنة جديدة تهدر قيمة العدل والقانون وتغذى فكرة الحرب الأهلية التى قيل لنا قبلا إنها كانت إحدى مبررات إسقاط النظام السابق.