فهمي هويدي
لا نستطيع ونحن نطرق أبواب العام الجديد أن نقاوم السعى لتقييم الحاضر فى مصر والتطلع إلى المستقبل. وهذه حاشية على نص مهم ألقى بين أيدينا فى نهاية العام.
(١)
فى الأسبوع الأخير فى العام قدم الأستاذ هيكل شهادة مثيرة حول الأزمة التى تمر بها مصر، تصلح مدخلا لحوار وطنى يستهدف تشخيصها بصراحة تمهد الطريق لتصويب المسيرة وإيصالها إلى بر الأمان. حدث ذلك يوم الجمعة الماضى ٢٥/١٢ خلال الحوار الذى أجرته الإعلامية لميس الحديدى مع الأستاذ ضمن سلسلة أحاديثه التى توالت تحت عنوان «مصر أين؟ وإلى اين؟».. ولا أعرف إن كان الأمر مرتبا من قبل أم لا، لكننى لاحظت أن الإجابة عن السؤالين لم تتوافر بشكل واضح إلا فى حلقة الجمعة الماضية، التى أرجح أنها ستكون الأخيرة فى السلسلة، وقد أثار انتباهى فى هذا الصدد أن إحدى الصحف التى كانت دائمة الاهتمام بنشر مضمون حوارات هيكل السابقة تجاهلت نشر حوار الجمعة الماضى من دون تفسير، الحوار الذى أثار فيه الأستاذ هيكل قضايا غاية فى الحساسية والدقة بصراحة ودبلوماسية فى ذات الوقت يكتسب أهمية خاصة، ليس فقط فى مضمونه ومصدره، ولكن أيضا فى أن الأستاذ طرف موثوق به وله جسوره المفتوحة مع رأس الدولة. ولأن بثه استغرق أكثر من ساعة على شاشة التليفزيون، كما أنه نشر على صفحتين كاملتين فى عدد جريدة «الشروق»، فإن أفكاره لم تكن غزيرة فحسب، ولكن اللباقة التى عرضت بها جعلتها حمالة أوجه فى الوقت ذاته، وذلك ما لمسته فى بعض الأصداء التى نشرت تفاعلا معه وتعقيبا عليه، وهو ما أغرانى بأن أعرض قراءتى لما صدر عنه، التى حرصت فيها على أن أرصد ما فهمته من تشخيصه ورؤيته للعديد من عناوين ملف الأزمة. ودورى فى ذلك ليس فيه أى اجتهاد أو تأويل، ولكنه يحاول الربط بين الأفكار التى تناثرت وتوزعت على إجابات الأسئلة المختلفة. إضافة إلى نزع بعض الغلالات الحريرية الرقيقة التى غلف بها بعض تلك الأفكار.
(٢)
ليست لدينا «بوصلة» واضحة، وتلك مشكلة خطيرة جدا، وإذا لم تنتبه مصر إلى ذلك فإنها ستصبح مرشحة للخروج من التاريخ. هذه كلمات الأستاذ التى بدت محورية فى حواره. وفى شرحه لها ذكر أن العالم يتغير من حولنا كل يوم، ولا يبدو أننا نعى ونفهم ما يجرى كما يجب. وبسبب غياب البوصلة فإننا لا نعرف كيف نجد طريقنا إلى المستقبل. لذلك يجب أن نقلق. فنحن بحاجة إلى نظرة عميقة تدرك أبعاد اللحظة التاريخية. إلا أن غياب الحقائق وضعنا فى موقف لا نحسد عليه. فمسالك الطرق غير واضحة كما أننا مازلنا نعمل بدون خريطة واضحة للمستقبل. ففى أعلى خريطتنا نرى أوروبا تتغير وتحت الخريطة إفريقيا تتحرك وثمة تحركات واسعة وكبيرة فى آسيا. وإزاء ذلك فإننا لانزال نقف ونأخذ الأمور على هوانا؟
فى وقت من الأوقات كنا موجودين فى خرائط التحرر الآسيوى والإفريقى. والآن لم نعد موجودين فى تلك المناطق، كما كان لنا وجود أيضا فى البحر الأبيض المتوسط وتراجعنا، وصار الوجود فى شرق المتوسط لإسرائيل وتركيا.. وهو ما يجعلنا نتساءل: أين نحن وأين العالم العربى؟.. لذلك فالخشية كل الخشية أن تكون عناصر القوة قد ضاعت منا، فى حين أننا نواجه عالما يفرض علينا أن نستجمع قوانا. وذلك غير متوافر فى الوقت الراهن، وهو وضع يعيد إلى الأذهان وصف «الرجل المريض» الذى صار عنوانا للدولة العثمانية حين حل بها الضعف فى بداية القرن العشرين، إلا أنه يخشى أن يكون الذى حل بالعالم العربى أخطر من المرض. وذلك مبرر كاف للقلق الشديد.
إن مصر تستطيع أن تقوم بدور المنقذ فى مواجهة هذا المأزق إذا توافر لها شرطان؛ الأول: أن تتوافر لديها الرؤية الواضحة للمستقبل، والثانى: أن تتحرك بمحيطها العربى. فبالرؤية الواضحة تؤدى مصر الدور وتكون جديرة بقيادة العالم العربى. ذلك أن القيادة تولد حيث يوجد دور يعبر عن قدرة وإرادة. ونحن نخطئ إذا ما تصورنا أننا نقود، غير مدركين أنه ليس بمقدور أحد أن يقود بحجمه أو بعدد سكانه أو لأنه راغب فى ذلك. فالصين ظلت طول الوقت أكبر الدول فى عدد السكان، لكنها لم تنتقل إلى موقع القيادة إلا عندما وجدت الإرادة ولم تكتف بالتمنى، حيث أصبحت الإرادة هى الأرض الحقيقية التى تقف عليها.
على صعيد آخر فمصر لم تقد أبدا إلا بمحيطها، وللأسف فإن قضايا العالم العربى لم تعد تذكر فى مصر الآن، وترتب على ذلك أننا لم ننجح فى توظيف قوة ذلك العالم للعبور إلى المستقبل. فى هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن قيمة مصر تقاس بمعيار وجودها فى العالم العربى ومعه العالم الآسيوى والإفريقى، ومخطئون وواهمون أولئك الذين تصوروا أن مصر سوف تسير نحو أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط منفصلة بذلك عن محيطها. وهى الفكرة التى برزت أخيرا، وبدت اختراعا يتعارض مع حقائق الجغرافيا وبديهيات التاريخ وخبراته الماثلة أمامنا.
(٣)
إن مجمل السياسات المطروحة على الساحة الداخلية فى مصر لا يكفى لإقناع الناس بأن هناك مستقبلا مرضيا ومقبولا. وإذا طرحنا السؤال: أين نحن من رضا الناس؟ فالرد أن هناك أناسا موافقين على الحاصل لأن البدائل مخيفة وقد جربوها ورأينا مصائب. وهناك جزء من الرضا يعد نوعا من القبول بالمصائر، لأن البدائل غائبة أو مزعجة.
فى مواجهة تحديات المستقبل لدينا مشكلة يتعين الانتباه إليها ووضعها فى الاعتبار. ذلك أن الرئيس السيسى جاء إلى السلطة والوطن تم تجريفه، وأمامه أرض فى منتهى الصعوبة الأمر الذى جعل الطريق إلى المستقبل حافلا بالعقبات. ولا مفر من إزالة تلك العقبات لكى يتقدم الوطن، علما بأن مهام المستقبل أكبر من جهد رجل واحد أو مجموعة من الناس. لذلك فنحن بحاجة إلى خطاب رسمى يطلق دعوة واضحة لمشاركة الجميع، كى لا نواجه ما نحن غير مستعدين لمواجهته. فى الوقت ذاته يقتضى الأمر أن يكون إلى جوار الرئيس فريق كبير يعاونه، لأنه لا يمكن أن يعمل بأربعة من المعاونين أو ثلاثة. ولا يشك أحد فى أن الفريق المعاون للرئيس الآن يتضمن أناسا من ذوى النوايا الطيبة. إلا أن ما حوله يمثل البيروقراطية التى هى لتسيير الأمور وليس التغيير. وفى اللحظة الحرجة التى نمر بها حيث الحاجة ماسة إلى مقصد يلتف حوله الجميع وخريطة واضحة لما نريد أن نذهب إليه. وذلك لا يتحقق إلا من خلال حوار بين كل قوى الوطن التى تعد تمثيلا حقيقيا للشعب. وذلك غير حاصل فى الوقت الراهن. بالتالى أصبحت إحدى مشكلاتنا تتمثل فى أن الرؤية التى أمام الرئيس لا تكفى لكى تعكس التصورات الكثيرة للمستقبل. من ثم فإنه صار مطالبا بأن يفتح المزيد من المجال العام، رغم أن ذلك المجال ملىء بالسلبيات.
إذا جاز لنا أن نتصارح أكثر فى التشخيص فيجب أن نقر بأنه لا يمكن لبلد أن يذهب لمستقبله وهو متوتر وخائف من الغد. ولا سبيل لتدارك هذه الثغرة دون خريطة للمستقبل، ولا نستطيع أن نعالج تلك الفجوة من خلال خطاب مرتبك ومختلط بشكل غير طبيعى.
من ناحية أخرى فإن الكلام عن الأمل المعقود على الشباب صحيح فى مجمله. لكننا لا نستطيع أن نجذب الشباب دون وجود نموذج واضح. كما أننا لا نستطيع أن نقنع الشباب بالمشاركة فى العمل السياسى فى حين أنهم يدركون أن السلطة تترك الجميع يقولون ما يشاءون لكنها تنفذ فى النهاية ما تريد.
إن الرئيس السيسى مطالب فى السنة الجديدة بأن يضع مع آخرين خريطة للأمل وأن يكون الأمل مصحوبا بخطة عمل، يترجمها الفعل الملموس على أرض الواقع. لأن أخطر شىء أن نمنح المواطن أملا زائفا يسوق الأمنيات، ورغم أن الجهد الذى بذل فى مشروع قناة السويس يحيى الأمل فى قدرة مصر على الإنجاز إلا أننا بحاجة إلى محاولة ترجمة القدرة إلى واقع فى مختلف المجالات لكى نستعيد الثقة التى تراجعت فى الداخل والخارج.
فى ثنايا الحوار الطويل تكررت أكثر من مرة العبارات التى تحدثت عن انعدام الرؤية وغيبة الدور المصرى والفراغ السياسى والتشرذم الناشئ عن ذلك. كما نجد انتقادا للانكفاء على الذات والانفصال عن المحيط مع محاولة التواصل مع أوروبا عبر البحر الأبيض إضافة إلى التخبط الحاصل فى الظلام والحاجة الملحة إلى حوار جاد بين الممثلين الحقيقيين للشعب المصرى. تستوقفنا أيضا إشارته إلى شارل ديجول ودوره فى فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية حين قدم برنامجا ظنه البعض وهما ولكن الإرادة حولت الوهم إلى تصور وفعل. وقوله إن مصر بحاجة إلى ديجول الذى يقدم للناس صوتا عاقلا يشدهم إليه ويجذبهم خلفه. إلى غير ذلك من الإشارات التى تمثل أجراسا للتنبيه والإيقاظ واستعادة الأمل فى المستقبل.
(٤)
فى نقل الأفكار وتوظيفها عرفت الثقافة الإسلامية فن «شرح المتون» الذى أطلق على دور طلاب العلم الذين انكبوا على شرح غوامض النصوص التى صاغها شيوخهم من خلال فض غوامضها واستخراج مضامينها. وإلى جانب هؤلاء تولى آخرون مهمة تقديم الحواشى، التى قصد بها شرح المعانى التى وردت فى نصوص شيوخهم بلفت الأنظار إلى مضمونها وإزالة الالتباس فيما ورد فيها من عبارات. وهذا الذى قدمته ينتسب إلى الجنس الثانى، بمعنى أنه حاشية على نص الحوار مع الأستاذ هيكل، وهى تنسب إلى بأكثر مما تعبر عنه، لأن ما ينسب إليه مقصور على ما ورد على لسانه فى النص المنشور، وما ذكرته هو قراءتى للنص والقدر الذى فهمته منه. بالتالى فلا يسأل عنه الأستاذ ومن حقه أن ينفيه أو يصوبه. مع ذلك فأرجو ألا نختلف على أننا ونحن مقبلون على عام جديد بحاجة إلى أجراس تنبه وأضواء كاشفة تدلنا إلى طريق السلامة. على العكس مما نشاهده الآن حيث نبدو وكأننا نهيئ المسرح لسرادقات الهتاف والتهليل بدعوى دعم الدولة، بأكثر من سعينا لإقامة ورش العمل للنهوض بالدولة وتوفير أسباب العافية لها. وأزعم أن الأفكار الأخيرة التى طرحها الأستاذ تفتح الشهية لافتتاح الحوار حول ذلك الملف المسكوت عليه.