فهمي هويدي
ما الذى يمكن أن يحدث لو أن المجلة الفرنسية رسمت زعيما عربيا فى وضع مشين، كذلك الذى صورت به النبى محمد عليه الصلاة والسلام؟ سأدع لك الإجابة على السؤال ومحاولة تصور تداعيات هذه العملية، سواء تأثيرها على العلاقات الثنائية، خصوصا على الصعيدين الدبلوماسى والاقتصادى، أو صداها فى إعلام الدولة المعنية، وربما فى الجامعة العربية أيضا.
لن أزيد فى هذه النقطة، لكننى فقط أذكرك بأن أى كلمة أو حتى غمزة تمس ولى الأمر من أى باب أصبحت تعرض صاحبها فى أغلب الأقطار العربية للاتهام والجلد والسجن ـ حدث ذلك فى الأسبوع الماضى ـ فضلا عن أنها أصبحت تفسد العلاقات بين الدول «الشقيقة».
لست أدعو إلى المساس بكرامة أحد من الحكام العرب، لأن العكس هو الصحيح، حيث أدافع عن حقهم فى الاحترام والكرامة، حتى إذا اختلفنا مع سياساتهم. ولكنى صرت أتمنى أن تكون الغيرة على كرامة رسول الله فى حدها الأدنى مماثلة للغيرة على كرامات أولئك الزعماء والحكام. أقول ذلك وأنا أكتم شعورا بالحزن والغيظ، لأننى وجدت أن الحكومات العربية ـ بما فيها حكومة خادم الحرمين فى المملكة العربية السعودية ـ استنكرت العملية الإرهابية التى استهدفت العاملين بالمجلة الفرنسية، ولم تستنكر التنديد بالنبى عليه السلام وإهانته برسومات بذيئة ومنحطة. وحدها الحكومة الإيرانية فعلت ذلك.
هذا الصمت الرسمى، يبعث على الدهشة ويدعو إلى الاستغراب، وأغلب الظن أنه يعبر عن نوع من الحذر وإيثار التوارى أمام اللوثة التى أصابت المجتمعات الغربية بسبب الجريمة النكراء. وربما تصورت بعض الدوائر الرسمية العربية أن على رأسها «بطحة» ـ كما نقول فى مصر ـ جعلتها تستشعر نوعا من الذنب لأن الجناة مسلمون، مع أنهم فرنسيون بالأساس وجهلهم بالإسلام أقوى من معرفتهم به. ورغم أن بعض الأقلام فى العالم العربى وفى الغرب أيضا أدانت الجريمة لكنها لم تدافع عن موقف الجريدة، إلا أننا لم نشهد ذلك التمييز فى المواقف الرسمية.
لقد دعا شيخ الأزهر المسلمين إلى تجاهل المجلة وبذاءاتها، وهو موقف عاقل ورصين لكنه ليس كافيا. من ناحية لأن التجاهل لا يلغى الغضب والشعور بالمهانة والغيرة على كرامة نبى الإسلام. ومن ناحية ثانية لأنه إذا كان من الحكمة دعوة المسلمين إلى الهدوء وكبح انفعالاتهم، إلا أن هناك حكومات ومؤسسات محسوبة على المسلمين على رأسها الأزهر ينبغى ألا تتجاهل الحاصل، وإنما عليها أن تعلن عن غضبها من خلال البيانات الرسمية والاتصالات الدبلوماسية. ومن حق المؤسسات ذات الصفة كالأزهر أن تقاضى المجلة بسبب إهانتها لمقدسات المسلمين والحض على كراهيتهم. وقد قبلت إحدى المحاكم الدانماركية من حيث الشكل دعوى من هذا القبيل فى عام 2006 فى أعقاب نشر الرسوم الدانماركية التى تناولت نفس الموضوع، إلا أنها رفضتها من حيث الموضوع لأنها اعتبرت نشرها من قبيل حرية الرأى.
أيا كان الأمر فلست أشك فى أن خطوات من ذلك القبيل يمكن أن تسهم فى امتصاص غضب المسلمين وتهدئة خواطرهم. وربما أبطلت ذريعة استخدام العنف للرد على تلك الإهانات. على الأقل من حيث إنها تقنع عامة المسلمين بأن جهات تمثلهم تحاول الدفاع عن كرامة نبيهم ومقدساتهم.
ما عدنا نناقش فكرة رفض استخدام العنف أو استنكار جريمة القتل حيث أصبح ذلك أمرا مسلما به. كما أن دفاعنا عن حرية التعبير لم يعد محل شك. إلا أن ذلك لا يغلق الملف. لأن ثمة أسئلة أخرى وثيقة الصلة بالحدث تطرح نفسها على العقلاء من الجانبين، وينبغى أن يتم الاتفاق على أجوبتها. من تلك الأسئلة ما يلى:
• هل يخدم السلم والتفاهم بين الشعوب أن يقوم أى منبر إعلامى فى أى عاصمة غربية بإهانة وازدراء مقدسات أكثر من مليار مسلم؟
• بأى منطق يعتبر الحط من مقدسات المسلمين تعبيرا عن حرية الرأى، فى حين تجرم القوانين أى نقد لإسرائيل باعتباره عداء للسامية، ولا يجرؤ باحث غربى على نقض ملف الهولوكوست، علما بأن المطاعن التى تستهدف المسلمين تجرح دينهم. والانتقادات المحظورة عند اليهود تتعلق بتاريخهم. وهى مفارقة تضفى على تاريخ اليهود قداسة تعلو فوق مقدسات المسلمين.
• هل تمارس حرية الرأى بغير مسئولية أو حدود، ولماذا يفضل البعض اختبار تلك الحرية فى نقد الأديان والمقدسات، فى حين يحجمون عن ذلك حين يتعلق الأمر بالأوضاع السياسية ومستقبل الأوطان؟
• هل من اللياقة ومسوغات احترام الآخر أن يعاد بعد الذى جرى نشر الرسوم المهينة لنبى الإسلام. ليس فى فرنسا فقط وإنما فى عدد آخر من الدول. وألا يعبر ذلك عن الإصرار على استفزاز المسلمين ومكايدتهم؟
• ألا يستحق الاستنكار بل والاعتذار أيضا ــ بنفس الحماس والقوة ــ أن يتعرض المسلمون فى فرنسا لأكثر من خمسين اعتداء خلال الثمانى والأربعين ساعة التى أعقبت الهجوم على المجلة المعادية للمسلمين؟ وهل يبرر الفعل رد الفعل؟
• هذه اللوثة المعادية للمسلمين التى اجتاحت عواصم الغرب هل تخدم الدول الأوروبية ذاتها التى يعيش بين ظهرانيها نحو 20 مليون مسلم، صاروا مواطنين ولم يعودوا مهاجرين أو وافدين. وألا يشكل ذلك عائقا دون اندماجهم الذى يدعون إليه فى تلك المجتمعات؟
لقد خطت المستشارة الألمانية السيدة ميركل خطوة إيجابية حكيمة حين قادت مظاهرة رفضت العداء للمسلمين والتخويف مما يسمى بأسلمة القارة، ولكن المحاولة ظلت استثناء فى الأجواء المحمومة الراهنة، التى علت فيها أصوات المهيجين والكارهين والمتعصبين، وهى خطوة استحقت التشجيع من جانبنا، لكنى أشك فى أنها يمكن أن تحقق المراد منها، لأن أصوات العقلاء لاتزال خافتة، ليس عندهم فحسب بل وعندنا أيضا.