فهمي هويدي
القرائن المتوافرة تدل على أننا خسرنا جولات التفاوض مع إثيوبيا حول موضوع سد النهضة.
ورغم أن ذلك لم يعلن رسميا، فإن تصريحات المسئولين المصريين عن صعوبة المفاوضات، وتأجيل الاجتماعات ورفض الجانب الإثيوبى الاحتكام إلى المكتب الاستشارى الذى رشحته مصر، إضافة إلى لغة التشاؤم فى أحاديث مختلف الخبراء والمسئولين. كل ذلك يعبر عن الرسالة بصياغات مختلفة. وهو تقدير إذا صح فمعناه أن خطوات البناء مستمرة ومتسارعة بمعدلاتها المقررة، بحيث ينتهى فى موعده عام 2017 لتبدأ بعد ذلك عملية ملئه بالمياه التى يقدر لها أن تستمر نحو خمس سنوات. وخلال تلك السنوات يفترض أن تنقص حصة مصر بنحو ١٢ مليار متر مكعب من المياه على الأقل. وهو ما يعنى أن نفقد نحو ٢٠٠ ألف فدان من الأراضى الزراعية، الأمر الذى تترتب عليه آثار كارثية عدة للخبراء فيها كلام كثير ومخيف.
لا مجال للتلاوم الآن والبحث عن كبش فداء لتحميله المسئولية والتضحية به إرضاء لمزاج الرأى العام. ذلك أن فتح ذلك الملف من هذه الزاوية يعد مضيعة للوقت لن تقدم أو تؤخر، فى حين أن السؤال الكبير الذى ينبغى أن تبحث إجابته بكل جدية ومسئولية هو: ما العمل؟
الفرضية التى ينبنى عليها السؤال تنطلق من أمرين الأول ثبوت سوء نية ومراوغة الطرف الإثيوبى. والثانى عدم التعويل على المفاوضات مع الجانب الإثيوبى. ومن ثم أهمية البحث عن بدائل فى هذه الحالة. سواء ما ينبغى أن ينهض به الجانب المصرى، أو من خلال التعاون مع السودان، أو بالتفاهم مع دول حوض النيل.
وكما يحدث فى أى معركة فإن الملف ينبغى أن يوضع بكامله أولا أمام أهل الاختصاص والخبرة لتقدير الموقف وتحريره من مختلف جوانبه. أعنى بذلك الموقف من المفاوضات وحقيقة المخاطر المحتملة فى حالة اكتمال بناء السد، والبدائل المطروحة أمام جهة القرار السياسى فى هذه الحالة سواء من الآن وحتى يكتمل بناء السد وفى أثناء ملئه خلال فترة السنوات الخمس التالية، ثم بعد امتلائه وانخفاض حصة مصر من المياه. وما هو موقف السلطة ومسئولية المجتمع فى كل مرحلة.
قرأت تصريحا لوزير الخارجية المصرى تحدث عن أن مصر قادرة على حماية أمنها المائى. وهو تصريح حماسى طيب كان مناسبا لعنوان الصفحة الأولى بجريدة الأهرام يوم ١٩/١٢. وهو يطمئننا ــ إذا صح ــ بطبيعة الحال. إلا أن الوزير لم يقدم لنا أية قرينة أو معلومة تؤيد كلامه، لذلك فإن تصريحه كان بمثابة فرقعة إعلامية جرى فيها استعراض العضلات للاستهلاك الداخلى، ومن ثم يتعذر أخذها على محمل الجد.
ما أفهمه أن قضية حيوية ومصيرية بهذا الشكل ينبغى أن تعالج من ثلاثة مداخل هى:
* تقدير الموقف على النحو الذى ذكرت بشجاعة وشفافية. من خلال توافق الخبراء والمسئولين على تأثير المشروع على مصر وما إذا كانت ستواجه مجاعة مائية أم لا ومتى؟
* إشراك الرأى العام فى الصورة. بمعنى تنوير الجماهير بالمخاطر المحتملة وإعدادهم لتحمل المسئولية ــ بترشيد استهلاك المياه مثلا ـ فى حالة ما إذا دخلت مصر فى طور الفقر المائى قبل حلول المجاعة لا قدر الله.
* الاتفاق على الخيارات المتاحة أمام السلطة للتعامل مع الأزمة فى كل مرحلة. وتلك الخيارات تتراوح بين البدائل الممكنة والاتصالات اللازمة مع الدول ذات الصلة والإجراءات القانونية التى يمكن اتباعها لإلزام الطرف الآخر بعدم الإضرار بالمصالح المصرية كما تقضى بذلك الاتفاقات الموقعة.
وفى كل الأحوال فإنه لا غنى عن الحفاظ على الاتصالات وجسور التفاهم المنشودة بين القاهرة والخرطوم. الأمر الذى يستلزم تصفية الأجواء بين البلدين والكف عن فتح الملفات الخلافية التى تباعد ولا تقرب وتقطع ولا تصل.
لا أعرف أن الرأى العام فى مصر أحيط بشىء من التطورات الأخيرة، باستثناء التصريحات المتشائمة أو الحماسية التى تمس المشاعر ولا تطرح الحقائق. لذلك لايزال المجتمع يتصرف فى استهلاكه للمياه غير مدرك أن هناك مشكلة فى الحاضر أو المستقبل. فلا تمهيد ولا تنوير ولا تحذير. والتعبئة الإعلامية مشغولة إما بتصفية الحسابات الداخلية وإما بمتابعة التنافس على مناصب البرلمان وأغلبيته.
لقد ولى الزمن الذى كان يقبل فيه الادعاء بأن السلطة تعرف وسوف تتولى الأمر من جانبها، ولينصرف كل واحد إلى شأنه الخاص. فقد دخل الجميع فى السياسة بعد ثورة يناير ٢٠١١ وأصبح من حقهم أن يعرفوا، لا لكى يطمئنوا على مستقبل بلدهم وأجيالهم فحسب، ولكن أيضا لكى يقوموا بما عليهم فى مواجهة الأزمة المحتملة. وقبل هذا وبعده فليس معقولا أن يلوح خطر من ذلك القبيل فى الأفق ثم يظل الناس بمعزل عن إدراك أبعاده. ذلك أنه إذا لم تصارح السلطة المجتمع فى أمر بهذه الجسامة فمتى تصارحهم إذن؟ وكيف يطالب الناس بالاطمئنان والثقة فى الحكومة إذا ما تم التعامل مع المجتمع الذى هو الأصل الباقى بحسبانه «كومبارس» يستدعى للتصفيق والتظاهر عند الطلب، فى حين تظل البطولة مقصورة على نخبة تحتكر السلطة والقرار، والأخيرون عابرون وزائلون.
نقلاً عن "الشروق"