فهمي هويدي
الرؤساء الأمريكيون يشيخون أسرع مرتين من أقرانهم الذين يعملون فى مهن أخرى، بسبب الإجهاد وضغط العمل طوال الوقت. تلك خلاصة انتهت إليها دراسة أعدتها مجموعة من العلماء فى جامعة الينوى بولاية شيكاغو ونشرت نتائجها صحيفة «التايمز» البريطانية. تحدثت الدراسة عن ان الرئيس الأمريكى باراك أوباما ظهرت عليه أولى علامات تقدم العمر وغزا الشيب رأسه بعد مرور 44 يوما فقط من انتقاله إلى البيت الأبيض (لا أعرف كيف حسبوها!). حتى ان حلاقه الخاص اضطر إلى تكذيب الشائعات التى اتهمته بأنه قام بصبغ شعر الرئيس بخصلات بيضاء بغية ان يظهر للجميع فى داخل الولايات المتحدة وخارجها انه رجل دولة بامتياز غارق فى مسئولياته إلى الحد الذى أدى إلى زحف الشيب إلى رأسه فى وقت مبكر نسبيا.
فريق علماء جامعة الينوى الذين قادهم البروفيسور أوشينسكى استخدموا برنامجا على الكمبيوتر لتقدير العمر التقريبى لأوباما، واستعانوا فى ذلك بكم هائل من الصور الفوتوغرافية له. وبعد دراسة حالته وتحليل مسيرة الرؤساء الأمريكيين الذين ماتوا موتة طبيعية (أربعة رؤساء تم اغتيالهم) خلصوا إلى النتيجة التى ذكرتها. وإذ قرروا أن الرؤساء الأمريكيين يشيخون أسرع مرتين من الناس العاديين، فإنهم ذكروا أيضا أنهم يعيشون مدة أطول بسبب الرعاية الصحية التى يتمتعون بها.
الدراسة طريفة ونتيجتها غير مفاجئة، لأن الهم الذى يحمله أى رئيس فى دولة ديمقراطية لا حدود له. وأشدد على كلمة «ديمقراطية» لأن الرئيس فى تلك الدولة يعلم جيدا أن الذين انتخبوه لم يعطوه تفويضا مفتوحا ولم يسلموه السلطة على بياض، وإنما أعينهم مفتوحة عليه طول الوقت، ثم ان مؤسسات المجتمع جاهزة لمساءلته، فضلا عن معارضيه يتربصون به. وإذا كان ذلك حال أى رئيس فى الدولة الديمقراطية، فما بالك به إذا كان رئيسا لدولة تمسك بعضا من مفاتيح العالم ويحمل تلالا من الهموم التى تتوزع على مشارق الأرض ومغاربها. وهى هموم تضاعفت فى زماننا بوجه أخص وفى منطقتنا على وجه التحديد التى قاومت «الإمبريالية الأمريكية» ولاحقتها فى مظانها ردحا من الزمن، وبعد ما دارت دورة الزمن أصبح التدخل الأمريكى مطلبا جماهيريا وصار الاحتماء بالنفوذ الأمريكى ملاذا وسُنةَّ مرغوبة تؤدى فى مواجهة كل أزمة مستعصية.
لن اختلف مع من يهز كتفيه ويمط شفتيه قائلا ان حكام المسلمين سبقوهم فى حمل الهم إلى مدى أبعد بكثير. واستشهد فى ذلك بمقولة الخليفة عمر بن الخطاب الشهيرة: «لو عثرت بغلة فى بغداد لسألنى الله عنها يوم القيامة لماذا لم تعبد لها الطريق». وهو نموذج فريد للمسئولية النابعة من خشية الله أولا، ومن الإيمان بأن الحاكم المسلم لا يتحمل مسئوليته عن الناس فحسب، لكنه يعتبر نفسه مسئولا عن حماية خلق الله فى الكون. والفرق بين مقولة عمر بن الخطاب وبين أداء الرئيس الأمريكى يجسد الفرق بين الخوف من حساب الله والخوف من أصوات الناخبين ومساءلة مؤسسات الرقابة فى الدولة.
هذا الكلام أحترمه وأفهمه لكننى أزعم اننا صرنا بإزاء واقع آخر لم تعد تطمع فيه بأكثر من حكام يعملون حسابا لرأى الناس ويخشون المساءلة من جانب مؤسسات الرقابة فى المجتمع. ولايزال الوقت مبكرا جدا للحديث عن أولئك الذين يخشون حساب الله فى الآخرة كما يخشون حساب الناس فى الدنيا.
يغرينا التقرير الذى نشرته صحيفة التايمز بالمقارنة بين رؤساء الدول الديمقراطية التى نسمع عنها والدول غير الديمقراطية التى نعرفها جيدا. فالأخيرون ــ الذين نعرفهم ــ لا يشيخون، إذ يحيطون أنفسهم بخبراء الرشاقة وشد الجلد والحفاظ على نضارة الوجه. فضلا عن أن مسألة الشيب محلولة، إذ هم بين مستعين بالصبغة وبين مكتف بإخفاء معالم الرأس بالغطرة والعقال وبين جامع بين الحسنيين. ونموذج الرئيس الأسبق حسنى مبارك يضرب به المثل فى هذا الصدد. من ناحية لأن الصحف فى عهده توقفت عن الإشارة إلى عمره حين يحل يوم ميلاده. وفى سنواته الأخيرة كانت وسائل الإعلام تحييه فى المناسبة دون ان تذكر شىئا من عمره. ثم انه لم يتوقف عن صباعة شعره طوال سنوات بقائه فى السلطة، وحتى حين دخل إلى السجن. وسمعت من أحد الوزراء الذين رافقوه فى إحدى زياراته للولايات المتحدة ان الرئيس الأسبق بيل كلينتون المشهور بشعرة الأبيض ظل ينظر إلى شعر رأسه وهو يبتسم فى أول لقاء بينهما. وكان مساعدو الرئيس الأمريكى قد أبلغوه بأن مبارك شديد العناية بصبغة شعره.
الأهم مما سبق ان الرؤساء فى الدول غير الديمقراطية يستمتعون بالسلطة بأكثر مما يحملون همومها. فإذا اطمأنوا إلى أمنهم الشخصى وأمن أنظمتهم فكل ما عدا ذلك يهون. ذلك انهم لا يخشون حسابا أو أى شكل من أشكال المساءلة فى الدنيا. فهم الذين يصدرون القوانين ويحاسبون بها غيرهم، وهم الذين يشكلون الأحزاب ويرتبون أمر الأحزاب الموالية للمعارضة. وإذ يتحللون من تلك الهموم فإن ذلك يطمئنهم ويتيح لهم أن يحصلوا على نصيبهم من متع الحياة ومباهجها. وقد كان السادات يأخذ على سلفه عبدالناصر أنه كان من هواة النكد وحمل الهم، لأنه كان يعمل طول الوقت. فى حين انه شخصيا كان محبا للتنقل بين الاستراحات وارتداء مختلف الأزياء، أما مبارك فقد أتاحت له مدة حكمه الذى امتد ثلاثين عاما ان يقضى وقته بين استراحة برج العرب فى الساحل الشمالى وبين منتجعه الأثير فى شرم الشيخ، إضافة إلى رحلاته المحببة إلى إيطاليا وفرنسا.
أحد الفروق الأخرى المهمة بين صنوف الحكام عندنا وعندهم، انهم عندنا مخلدون أما عندهم فهم متغيرون. والأولون يرتفعون إلى مصاف الآلهة والأخيرون لا ينسون انهم بشر قبل تنصيبهم وبعده، والآلهة لا تشيب بطبيعة الحال، ولكن البشر لا يشيبون فحسب، وإنما يعانون من الصلع أيضا ـ طال عمرك.