فهمي هويدي
شاءت المقادير أن تنفجر قضية التحرش فى مصر مع بداية الرئاسة الجديدة، لكى تطلق جرسا قويا ينبه الجميع إلى أن فى البلد مشكلة اجتماعية كثيرا ما تم تجاهلها، تحت وطأة الانشغال بالأمور السياسية والأمنية والمعيشية. وقد أزعم أنها مما ينطبق عليه الوصف القرآنى: «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم». لست فى مقام مديح ما جرى بطبيعة الحال، لكننى أحاول استخلاص ما هو إيجابى من المشهد. إعمالا للحكمة الصينية التى تدعو إلى تحويل الأزمة إلى فرصة.
قلت فيما سبق إن من «فضائل» جريمة التحرش التى حدثت يوم الأحد الماضى (8/6) فى ميدان التحرير أنها بمثابة جرس أطلق لكى ينبهنا إلى الظاهرة المسكوت عليها. وأشرت توا إلى مصادفة التوقيت وتزامنه مع بداية الرئاسة الجديدة، بما من شأنه أن يستدعى ملف المشكلة الاجتماعية ضمن الملفات التى يجرى وضعها على طاولة الرئيس فى بداية عهده. وأهمية هذه النقطة تكمن فى أن ذلك الملف لم يشر إليه أحد من الذين دأبوا طوال الأسابيع الأخيرة على وعظ الرئيس وإرشاده إلى ما ينبغى عمله وإلى أولويات جدول أعماله.
ثمة إيجابية أخرى لما جرى تتمثل فى أنه يسمح لنا بأن نتطرق إلى ما هو سلبى فى السلوك الاجتماعى لدى المصريين، وهو الباب الذى يتجنب كثيرون الخوض فيه، نظرا لحساسيته وتجنبا لمظنة الاتهام الذى يرمى به كل من غامر بالحديث فى الموضوع. وليست بعيدة عن أذهاننا الاتهامات التى تتردد فى وسائل الإعلام وتنسب إلى كل ناقد لشىء فى مصر بأنه ضالع فى «إهانة الشعب المصرى». ناهيك عن حساسية المصريين إزاء أى نقد وارتياحهم إزاء المديح وتضخيم الذات، مع التباهى المشهود بحكاية التاريخ الممتد لسبعة آلاف سنة، وكونها أم الدنيا التى أضيف إليها مؤخرا أنها «قد الدنيا».
فى القرن الخامس عشر الميلادى تطرق تقى الدين المقريزى الذى يوصف بأنه مؤرخ الديار المصرية إلى أخلاق المصريين فى كتابه «المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار» فقال إن «أبدانهم سخيفة سريعة التغير، قليلة الصبر والجلد. وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستمالة والتنقل من شىء إلى شىء. والدّعة والجبن والقنوط والشح وقلة الصبر، والرغبة فى العلم وسرعة الخوف والحسد والنميمة والكذب والسعى إلى السلطان وذم الناس. وليست هذه الشرور عامة فيهم، فمنهم من خصه الله بالفضل وحسن الخلق وبرأه من الشرور». وفى دراسة للدكتور إبراهيم البحراوى حول الشخصية المصرية، ذكر أن رؤية المقريزى تشكلت فى ظل العصر المملوكى (القرن الخامس عشر). وهو العصر الذى سادت فيه المظالم الاجتماعية وحل فيه البطش بالناس. وقال إن الأخلاق السائدة التى رصدها المقريزى كانت وسائل المجتمع لاتقاء شرور الحكام والأقوياء وكسب العيش والبقاء.
فكرة تأثر الأخلاق بالاستبداد لها حضورها القوى فيما كتبه عبدالرحمن الكواكبى عن «طبائع الاستبداد» وذكر أنه «يرغم الأخيار على ألفة الرياء والنفاق» كما أنه يدفع الناس إلى «التسفل»، بمعنى التخلق بأخلاق السفلة. وتحدث ابن خلدون فى مقدمته عن تأثير البنية الجغرافية والمناخية على طباع الناس وخصالهم. فقسم العالم إلى سبعة أقاليم. وميز بين سكان التلال والسهول وبين أهل المناطق الحارة والرطبة. وسكان البلاد الباردة.
الملاحظة المهمة فى هذا الصدد أن نقد الذات من علامات الشجاعة والثقة بالنفس، ومن أبواب تدارك العلل والتطلع إلى التعافى والتقدم. فى حين أن الحساسية إزاء ذلك تنقص ولا تضيف فضلا عن أنها سبيل إلى خداع النفس والتعامى عن الحقيقة وغير ذلك مما يلجأ إليه الضعفاء لستر عوراتهم.
إن تسليط الأضواء على المثالب والرذائل لا يلغى وجود الفضائل. وربما لاحظت فى كلام المقريزى بعد أن قال ما قاله بحق أخلاق المصريين فإنه نبه إلى أن الشرور التى ذكرها ليست عامة فى المصريين، منوها إلى أن منهم من خصه الله بالفضل وحسن الخلق وبرأه من الشرور.
لقد نفخنا كثيرا فى أنفسنا. ودبجنا لأجل ذلك ما لا حصر له من المدائح والقصائد والأناشيد. وأرجو أن يتوافر لدينا قدر من الثقة وسعة الصدر يسمح لنا بالإنصات إلى الأصوات الأخرى التى قد تسمعنا ما لا يسرنا عن رذائلنا وما هو سلبى من أخلاقنا الاجتماعية. فنشجعها ولا نقمعها، ونستعين بما يقال لكى نرمم دارنا ونحصِّنها. خصوصا أن المجتمع المصرى مر خلال العقود الأخيرة بظروف تكاد تماثل الاستبداد الذى عانت منه مصر تحت الحكم المملوكى فى القرن الخامس عشر. ولنذكر أن الخليفة عمر بن الخطاب امتدح الناقدين له وشجعهم. وهو القائل: رحم الله من أهدى إلى عيوبى ــ فهل من مبادر؟
"الشروق"