فهمي هويدي
فى الأسطر الأخيرة من سجل العام الرابع للثورة (23/1) قرأنا خبر قتل الطالبة سندس رضا فى مسيرة بالإسكندرية، فى الأسطر الأولى من سجل عام الثورة الخامس (24/1) كان خبر قتل شيماء الصباغ فى مسيرة بقلب القاهرة ــ ماذا يعنى ذلك؟ مفتاح الرد فى التفاصيل. إذ أعلنت مديرية الصحة بالإسكندرية عن استقبال مستشفى شرق المدينة طالبة متوفية باسم سندس رضا أبوبكر (17 سنة). أصيبت برصاص خرطوش فى الصدر والوجه. كما أن اثنين آخرين كانا مصابين بطلقات نارية وكدمات خلال اشتباكات اندلعت بين قوات الأمن ومسيرة لجماعة الإخوان.
التفاصيل كانت أوفر فى حادث قتل شيماء، ليس فقط لأن منظمى المسيرة تحدثوا إلى بعض القنوات التليفزيونية عما رأوه بأعينهم، ولكن أيضا لأن المصورين سجلوا بكاميراتهم مشاهد الحدث التى تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعى على الفور. مدحت الزاهد نائب رئيس حزب التحالف الاشتراكى الذى نظم المسيرة روى التفاصيل فى أحد البرامج التليفزيونية المسائية، قال إن الحزب نظم المسيرة التى ضمت بضع عشرات من القيادات، وكان لها هدف محدد هو وضع الزهور على النصب التذكارى لشهداء الثورة فى ميدان التحرير، وكانت التعليمات صريحة ومشددة على كل المشاركين بضرورة الالتزام بترديد هتاف الثورة (عيش حرية عدالة اجتماعية)، وبتجنب أى احتكاك مع الشرطة، وحين اقتربت المسيرة من ميدان التحرير، وكانت شيماء ممن حملوا إحدى باقات الزهور، فإنها صادفت مجموعة من رجال الشرطة يسدون الطريق. حينذاك اتجه الأمين العام للحزب صوب قائد المجموعة ليشرح له هدفها. لكنه قبل ان يصل إليه فوجئ برصاص الشرطة ينهمر على المسيرة، إضافة إلى اندفاع أفراد ملثمين قاموا بإلقاء القبض على الأمين العام للحزب وآخرين معه فى حين أطلق أحدهم الخرطوش صوب شيماء الصباغ التى قدمت من الإسكندرية باعتبارها أمينة الحزب هناك. فقتلها بعدما أصاب الخرطوش رقبتها وأدى إلى تهتك رئتيها كما ذكر تقرير التشريح المبدئى. الصور التى نشرت سجلت وقوفها إلى جانب الزهور التى حملتها، كما سجلت إصابتها ومحاولة أحد زملائها مساعدتها. ثم سقوطها على الأرض بعد ذلك.
الذين قادوا المسيرة مدحت الزاهد وزملاؤه قالوا إن أحدا لم يندس بينهم، وإن الشرطة وحدها التى اعترضت طريقهم وأطلقت عليهم الخرطوش وقنابل الغاز.
قتل سندس فى الإسكندرية لم يحدث صدى يذكر، أولا لأن المسيرة أو المظاهرة كانت للإخوان الذين صار قتل المنتسبين إليهم أو المتعاطفين معهم خبرا عاديا. وثانيا لأن الحدث وقع خارج القاهرة ومن ثم بعيدا عن منابر التأثير الإعلامى. لذلك لم تحدث الجريمة صدى يذكر. ولكن الآلة الإعلامية الأمنية تحركت بسرعة للتغطية على جريمة القتل التى ترددت أصداؤها قوية فى أوساط السياسيين والإعلاميين، لأن الإخوان لم يكن لهم علاقة بالمسيرة، ولأن شيماء جاءت ممثلة لحزب يسارى، ولأن المشهد تم تحت الأعين المفتوحة والأضواء القوية فى العاصمة.
رغم انتشار الصور وذيوع التفاصيل التى اتهمت الشرطة بقتل شيماء على ألسنة منظمى المسيرة، فإن وكالة أنباء الشرق الأوسط ذكرت أنها وقعت أثناء سيرها وماتت. وسارع أحد المخبرين الإعلاميين إلى القول فى برنامجه التليفزيونى إن الإخوان هم الذين قتلوها للإساءة إلى سمعة الشرطة وإثارة الفوضى. وبثت إحدى القنوات صورة قديمة لمتظاهر يطلق الشماريخ لتوحى بأنه المتسبب فى قتلها. كما ذكرت جريدة «الشروق» على موقعها أن متحدثا باسم الداخلية قال إن الشرطة لم تستخدم الخرطوش لفض المسيرة، وان هناك «أيدى خفية» تسعى لنشر الفوضى. أضاف المتحدث ان المتظاهرين كانوا مسلحين وانهم تعدوا على الشرطة بالشماريخ. إلى غير ذلك من الأصداء التى انطلقت من موقف الإنكار التام لأى مسئولية للشرطة عما جرى لشيماء وزملائها.
حين تواترت الشهادات التى تحدثت عن ان الشهيدتين سندس وشيماء قتلتا جراء الخرطوش الذى أصاب كلا منهما فى الرقبة والصدر تذكرت ان تقرير تقصى حقائق أحداث الثورة الذى تم دفنه بعدما أعدته لجنة المستشار عادل قورة عام 2011 سجل نفس الملاحظة بخصوص قتل المتظاهرين آنذاك، وحين رجعت إلى خلاصته وجدت أنها نصت على أن «رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشا وذخيرة حية فى مواجهة المتظاهرين أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير.. وقد دل على ذلك أقوال من سئلوا فى اللجنة ومن مطالعة التقارير الطبية التى أفادت أن الوفاة جاءت غالبا من أعيرة نارية وطلقات خرطوش فى الرأس والرقبة».
يسوغ لى ما سبق أن أحاول الإجابة عن السؤال الذى ألقيته فى الأسطر الأولى. ذلك ان اختتام العام الرابع للثورة بقتل سندس وابتداء العام الخامس بقتل شيماء فى تكرار لما حدث فى الأيام الأولى للثورة يبعث إلى الجميع برسالة ينبغى أن تقرأ جيدا. خلاصة الرسالة أن شرطة مبارك والعادلى التى لم تتغير لم ولن تتسامح مع من تسول له نفسه ان يتظاهر فى الشارع. حتى إذا لم تكن المظاهرة ضد السلطة. وحتى إذا كانت سلمية. وفى كل الأحوال فلا ينبغى لأحد أن يتفاءل بالمستقبل لأن أى خروج لأى سبب سيظل بمثابة مشروع عملية استشهادية. لا فرق فى ذلك بين ان يكون إخوانيا أو يساريا. وفى هذه الحالة فإن القتل سيتم بالمجان، ولن يحاسب أحد من المشاركين فيه أو المسئولين عنه، إذ هو برىء مقدما، حتى إذا ضبط متلبسا. وعند الضرورة وفى أسوأ الظروف وإذا كان لابد من محاكمة أحد، فإن المتهم سيكون طرفا آخر من خارج هيئة الشرطة. وسوف يتولى الإعلام الأمنى القيام باللازم لحبك المشهد والتستر على الجريمة.
ليست هذه هى المرة الأولى التى توجه فيها مثل تلك الرسالة إلى الرأى العام فى أى بلد. فخبرة التاريخ تحفل بمثلها، كما ان إطلاقها عقب ثورات التحرير ليس أمرا مستغربا، لكن عواقبها لم تكن آمنة دائما. ذلك أن الناس لم ينسوا الدماء التى سالت ولا الرصاص الذى أطلق، وإنما اختزنوه. لكن اختلاط الدم بالرصاص شق طريقا للندامة لا تعرف له حدود.