حين قرأت تصريحا رسميا أكد أن مياه الشرب فى مصر «زى الفل»، وان اللغط المثار حول الموضوع هو جزء من حرب نفسية تستهدف إثارة البلبلة والذعر بين المصريين، اقتنعت بأن هناك مشكلة يراد تغطيتها بحجة المؤامرة. ولم أكن بحاجة إلى الاعتماد على سوء الظن بمثل هذه التصريحات، لانه فى اليوم الذى نشرت فيه صحيفة «التحرير» هذا الكلام على لسان رئيس الشركة القابضة لمياه الشرب (أمس الأربعاء ٢٩/٤)، كانت بقية الصحف المصرية تنشر معلومات أخرى شككت فى صدقية كلام الرجل أو ما نسب إليه، فتلوث المياه وتسممها أمر صار ثابتا فى محافظة الشرقية والأسئلة مازالت مثارة حول مصدر التلوث، وان كانت أكثر الأصابع تشير إلى مسئولية محطات التنقية الخاصة عنه. ثم إن هناك شكوكا أخرى لم تتأكد حول احتمالات تلوث المياه فى محافظتى البحيرة والاسكندرية. وفى الوقت ذاته وجدنا أن منظمة الصحة العالمية أرسلت خطابا إلى وزارة الصحة المصرية طالبتها فيه بضرورة التأكد من انتشال الفوسفات من مياه النيل أمام محافظة قنا بصعيد مصر، للحيلولة دون ضمان ذوبانه فى المياه بما يحمله من مواد مشعة. وإلى أن يتم ذلك فإن المنظمة الدولية طالبت بمنع المواطنين من شرب مياه النيل مباشرة فى المنطقة المحيطة، لما قد يسببه ذلك من أضرار صحية بالغة.
الشاهد أننا إزاء أزمة حقيقية، لا ينبغى المبالغة فى حجمها وأثرها بطبيعة الحال، إلا أنه لا يجوز التهوين من شأنها أو تجاهلها، ناهيك عن الادعاء بأنها مؤامرة وان المياه «زى الفل».
كنت قد تطرقت إلى بعض جوانب الموضوع ودلالاته هذا الأسبوع (فى ٢٦/٤)، باعتباره من علامات تدهور الخدمات الأساسية التى تقدم للمصريين، التى أفسدها التسيب والفساد. وتلقيت تعليقات عدة على ما كتبت، استوقفنى منها تعليق لأحد الخبراء العاملين فى المجال، هو المهندس الاستشارى أحمد حسين قنديل، الذى أثار فى تعليقه عدة نقاط مهمة هى:
• لكى يصل للمواطن كوب مياه نظيف فلابد من توافر منظومة متكاملة تبدأ بمصدر نقى للمياه هو نهر النيل (إذا استثنينا المياه الجوفية والمحلاة) يليه محطة تنقية تقوم حقا بدورها فى التنقية، ثم يجب أن تمر المياه بعد تنقيتها بأمان داخل مجموعة من الشبكات والخزانات حتى تصل إلى المنزل.
• قد تستطيع محطات تنقية المياه (إذا أدت وظيفتها) التخلص من البكتريا والفيروسات فى مياه النيل ولكنها لا تستطيع (لانها غير مصممة) ان تتخلص من المعادن الثقيلة التى قد تصل إلى النيل من الصرف الصناعى (وتشمل تلك المعادن الكادميوم والزئبق والرصاص وغيرها). وتتراكم المعادن الثقيلة بمقادير ضئيلة داخل الجسم البشرى دون أن يستطيع التخلص منها. وباستمرار التراكم البطىء تبدأ عدة أمراض متنوعة فى الظهور من فشل بأجهزة الجسم المختلفة أو سرطانات أو أمراض تصيب الجهاز العصبى والقدرات العقلية. الأمر الذى يعنى أن خطورة التلوث الصناعى على مياه النيل هى أضعاف خطورة التلوث بمياه الصرف الصحى (مع التسليم بأن كليهما ضار).
• أخيرا إذا خرجت المياه بحالة جيدة ومطابقة للمواصفات من محطة التنقية فلاتزال هناك امكانية لتلوثها فى رحلتها إلى المواطن من خلال الشبكات والخزانات. والعامل الحاسم فى القرى التى لا يوجد بها صرف صحى متكامل هو تلوث شبكات المياه من خلال التربة المشبعة بمياه الصرف الصحى.
• اتفق تماما مع الدعوة إلى ضرورة وجود جهة رقابية مستقلة لهذه المنظومة تكون لديها معامل مرجعية تقوم بالتفتيش الواجب. وقد كانت الرؤية الاستراتيجية عند انشاء الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى هى وجود جهاز رقابى مستقل وهو الجهاز التنظيمى لمياه الشرب. وقد انشىء بالفعل ذلك الجهاز فى ٢٠٠٥ ولكن الصراعات السياسية الصغيرة جردته من الاستقلالية الواجبة. وتلك قصة أخرى، وربما حان الوقت الآن للنظر فى تمكين هذا الجهاز.
• ليست هذه أول مرة تتبادل الحكومة مع جهات أخرى الاتهامات حول المسئولية عن تلوث المياه. ففى سبتمبر ٢٠١٢ طالعتنا الصحف بأخبار عن تلوث مياه قرية «صنصفط» بالمنوفية وتسمم عدد كبير من مواطنى القرية. وقرأنا آنذاك عن تبادل الاتهامات بين عدة جهات مختلفة (جهة حكومية منوط بها توصيل المياه النظيفة للمواطنين وجهة أخرى خيرية قامت بتوفير محطة آبار من تبرع أهالى القرية القادرين). ورأينا وقتذاك مظاهرات خرجت منادية بكوب مياه نظيف.
• لا يوجد حل سحرى ولكن هناك خطوطا عريضة تشمل:
١ــ توفير استقلالية تامة لجهة رقابية عليا تقوم بحماية نهر النيل من أى تعديات وأهمها الصرف الصناعى والصحى والزراعى والنفايات الصلبة. وحبذا لو كانت تلك الجهة مستقلة تماما عن الوزارات وتتبع مباشرة رئاسة مجلس الوزراء مع توفير الامكانيات اللازمة لها. فنقاء مياه نهر النيل والحفاظ على صحة المصريين هما قضيتا أمن قومى بامتياز.
٢ــ النظر السريع فى حلول للصرف الصحى بالقرى وفى الواقع فإن معظم قرى مصر تعوم على مياه الصرف الصحى وهو وضع خطير يؤثر على صحة المواطنين وأساسات المبانى أيضا.
٣ــ لابد من مراجعات شاملة للهياكل التنظيمية التى تتحكم فى تنفيذ وتشغيل والإشراف على البنية الأساسية لهذا القطاع.
من عندى أضيف أنه حينذاك فقط يمكن القول بأن مياه الشرب أصبحت «زى الفل».