فهمي هويدي
ابتداء من يوم السبت 15 نوفمبر الحالى أصبح للمؤسسة الدينية ــ لأول مرة فى التاريخ المصرى ــ شرطتها الخاصة، التى تتولى المراقبة والضبط والإحالة مباشرة إلى النيابة العامة. إذ فى ذلك التاريخ قام وزير الأوقاف بتوزيع بطاقات الضبطية القضائية على مائة من قيادات الأوقاف والأزهر، التى تخولهم سلطة ممارسة تلك المهمة. التى سبق أن قررها لهم قانون تنظيم الخطابة والدروس الدينية بالمساجد، الذى أصدره الرئيس السابق عدلى منصور فى الخامس من شهر يونيو الماضى (عام 2014). إذ حظر القانون على غير المعينين المختصين بوزارة الأوقاف ووعاظ الأزهر المصرح لهم ممارسة الخطابة ــ ومنع غير خريجى الأزهر أو مراحله التعليمية من العمل بالدعوة. وأعطى القانون للأئمة بالأوقاف صفة مأمورى الضبط القضائى لتنفيذ أحكامه. ونص على معاقبة من يمارس الخطابة دون ترخيص بالحبس ثلاثة أشهر وبغرامة تصل إلى 50 ألف جنيه، كما اعتبر ارتداء الزى الأزهرى لغير الفئات سابقة الذكر أو إهانة الزى والازدراء والاستهزاء به جريمة يعاقب مرتكبها بالحبس لمدة تصل إلى سنة، وبغرامة تتراوح بين عشرة و30 ألف جنيه.
خلال الأشهر الخمسة الماضية التى أعقبت صدور القانون كان تنفيذه محل دراسة بين وزارات الأوقاف والعدل والداخلية لحسم أمرين أساسيين، أولهما ترتيب إصدار التصاريح التى تخول الخطباء والدعاة حق ممارسة المهنة، باعتلاء منابر الجمعة ومباشرة الوعظ وتقديم الدروس الدينية. الثانى الاتفاق مع وزارة العدل على ترتيب مسألة الضبطية القضائية لشاغلى الوظائف القيادية فى الأوقاف والأزهر، التى تمكن أولئك المسئولين من إحالة ضبط الخطباء وإحالتهم إلى النيابة العامة. وهى المهمة التى كانت تقوم بها الشرطة إذا ما تلقت بلاغات فى هذا الصدد، من مسئولى الأوقاف أو غيرهم.
هذا التطور المثير فى مسيرة ودور المؤسسة الدينية يستدعى عن ملاحظات أوجزها فيما يلى:
• أن أى دارس للقانون يعرف أن المراد بالضبطية القضائية هو ضبط أو منع الجرائم المادية مثل التهريب والتزوير والسرقة وغير ذلك. ولم يخطر على بال المشروع ان تمارس تلك الضبطية بحق الآراء والأقوال، لأنه إذا كانت هناك ضرورة للإسراع فى وقف الأفعال سابقة الذكر فإن تلك الحاجة ليست قائمة بالنسبة للأقوال سواء كانت خطبا على منبر الجمعة أو دروسا تلقى فى المساجد.
• أنه إذا كان الهدف من الضبطية هو محاصرة أفكار الإخوان والسلفيين، كما ذكر العنوان الرئيسى لجريدة المصرى اليوم الصادر فى (15/11)، فإن ذلك الحصار المرتجى لا يتحقق بترهيب الخطباء أو إحالتهم إلى النيابة العامة، لأن الفكر لا يحارب بمثل تلك الإجراءات الأمنية والقانونية. وليست بعيدة عنا تجربة منظمة داعش التى بثت أفكارها وجندت عناصرها فى داخل العالم العربى وخارجه، دونما حاجة إلى منابر للخطابة أو إلقاء دروس دينية. حيث وفرت لها مواقع التواصل الاجتماعى فرصة الاتصال بالجميع بعيدا عن القنوات التقليدية المتعارف عليها.
• إذا كانت المساجد التابعة للأوقاف تربو على مائة ألف، فسيكون من المستحيل على مائة مسئول فى الأوقاف والأزهر أن يراقبوا ما يجرى فيها لممارسة الضبطية التى توافرت لهم. حيث سيكون كل واحد منهم مكلفا بمراقبة نحو ألف مسجد، علما بأننى لم أشر إلى المساجد الأهلية غير التابعة للأوقاف أو الزوايا. وفى هذه الحالة فإن قيادات الأوقاف الذين سيباشرون المهمة سوف يعتمدون على التقارير الأمنية، التى وحدها يمكن أن تغطى تلك المساحة الشاسعة، وإذا وضعنا فى الاعتبار أن تصاريح ممارسة الخطابة لن تمنح إلا بعد الرجوع إلى الأجهزة الأمنية، فذلك معناه أن أنشطة الدعوة كلها ستكون تحت السيطرة الأمنية، ومعناه أيضا أننا بصدد تقنين إلحاق مرفق الدعوة الإسلامية كله بوزارة الداخلية.
• هذا الوضع سيضعنا أمام مفارقة جديرة بالرصد، ذلك أن المساجد ستصبح من الناحية العملية تابعة للقطاع العام وتحت سيطرة الدولة، فى حين أن الكنائس ستظل تابعة للقطاع الخاص، ولا سلطان للدولة على الخطب والدروس التى تلقى فيها.
• المشهد يذكرنا بتحليل نفيس للدكتور على راشد أحد كبار أساتذة القانون الجنائى فى مصر، بمقتضاه قسم الجرائم إلى نوعين، أحدهما جرائم طبيعية من ذلك النوع الذى تَمجُّه النفوس ويرفضه الجميع مثل القتل والسرقة والغش وغير ذلك، الثانى جرائم اصطناعية تفتعلها السطة السياسية لكى تبسط من خلالها سيطرتها على المجتمع. وهذا الذى نحن بصدده من النوع الأخير، الذى يراد به فى نهاية المطاف إسكات الأصوات التى تخالف السياسات العامة وتنتقدها، بدعوى محاربة التطرف والإرهاب.
أخيرا فإن شرطة الأوقاف الجديدة لا تختلف فى فكرتها الأساسية عن محاكم التفتيش التى عرفتها أوروبا فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، التى بدأت بتكليف بعض الرهبان بملاحقة ومحاكمة المتمردين على الكنيسة الكاثوليكية فى جنوب فرنسا، مع فارق بسيط هو أن سلطة «الضبطية القضائية» التى منحت للرهبان آنذاك خولتهم حق ضبط ومحاكمة أولئك الخارجين. أما فى تجربتنا فقد قسم العمل بحيث يتولى الضبط «رهبان» الأوقاف، أما المحاكمة فقد ترك أمرها للنيابة والقضاء، وكلاهما لم يعد يقصر فى القيام بما يلزم.