فهمي هويدي
حين تجرى الترتيبات فى ليبيا لمحاكمة رموز النظام السابق (37 شخصا يتقدمهم سيف الإسلام القذافى وعبدالله السنوسى، رئيس المخابرات) قدمت صحيفة «الوطن» المصرية، منسق العلاقات المصرية الليبية السابق أحمد قذاف الدم فى حوار مطول يوم الخميس الماضى (11/9) باعتباره «قياديا» ليبيا، ولأن الحوار نشر على صفحتين كاملتين فإن صاحبنا حولهما إلى منصة لغسل نظام العقيد وتبييض صفحته. صحيح أن محاكمة «أزلام» نظام القذافى يفترض أن تتم فى 12 أكتوبر المقبل. لكن التزامن بين الإعداد للمحاكمة وتحسين صورة نظام القذافى وشخصه، واعتباره فقيها حافظا للقرآن ومناضلا ضد الاستعمار والنفوذ الغربى فى أفريقيا، هذا التزامن يفتح الباب لتأويلات عدة، خصوصا فى ظل الغيوم والالتباسات الحاصلة حاليا بين مصر والنظام الجديد فى ليبيا.
قد يكون التزامن مجرد مصادفة، لكننا لا نستطيع أن نفترض البراءة فيه على طول الخط. فالتوقيت والمنبر الذى تحدث أحمد قذاف الدم من خلاله، والمبالغة فى تقديم الشخص وفى تصوير دور القذافى فى أفريقيا ومواقفه «النضالية» ضد الأعادى. ذلك كله يبعث على التساؤل فضلا عن الارتياب والشك. فنحن لا نعرف المتحدث إلا باعتباره أحد الموظفين الذين كانوا جزءا من نظام القذافى والقناة الرئيسية للتواصل مع مصر، على الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية، وكونه ابن عمه لا يقنعنا بأنه «قيادى» ليبى. حيث لم يكن له قرار حتى فى ظل النظام السابق، ثم إننا لا نعرف أنه كانت له شعبية، لا على صعيد الرأى العام ولا على صعيد القبيلة.
فى الحوار الذى بالغت الصحيفة المذكورة فى الحفاوة به، حتى قدمته على رأس صفحتها الأولى قال قذاف الدم إن الشعب الليبى يعض الآن أصابع الندم حزنا على ما فات بعد الذى آلت إليه الأمور فى البلاد الآن. وكأنه أراد أن يقول لنا إن الليبيين أصبحوا يفتقدون نظام العقيد وكتابه الأخضر ولجانه الثورية، ويحنون إلى «الزمن الجميل» الذى عاش فى ظله طوال أكثر من أربعين عاما. وهو ما يذكرنا بالصرعة التى لاحت فى مصر يوما ما ورفعت شعار «آسفين يا ريس»، وانتهت بوصف ثورة يناير بأنها «مؤامرة».
لقد ظهرت مع الحديث المطول صورة موحية للسيد أحمد قذاف الدم وهو يتطلع إلى صورة للعقيد ظهر فى خلفيتها السيد عمر المختار شيخ المجاهدين وأسد الصحراء الذى قاتل الطليان قبل القبض عليه وإعدامه فى عام 1931، الأمر الذى يذكرنا بتمسح بعض الزعماء فى صورة جمال عبدالناصر والإيحاء بأنه يمثل مرجعية لهم وأنهم امتداد له، وفهمنا من الحوار ان حلف الناتو هو من قتل القذافى، بمثل ما ان الطليان قتلوا عمر المختار. حيث اريد لنا ان نقتنع بأن ذلك قدر المناضلين والمجاهدين الذين كان القذافى أحدهم.
ليس خافيا ان حملة غسل صفحة العقيد القذافى وتحسين صورته قبل المحاكمة المنتظرة تستثمر أجواء القلق فى داخل ليبيا وخارجها جراء الاشتباكات والصدامات الحاصلة هناك، وتحاول توظيفه لصالح التطلع لاستعادة النظام السابق، وإذ أفهم أن القلق قائم ولا سبيل إلى انكاره، ولكن القلقين ليسوا نادمين على إسقاط نظام القذافى ولكن سببه أنهم كانوا ولايزالون يتطلعون إلى نظام أفضل منه، وأفضل من الذى قام بعد الثورة. وقد أقنعتنى زيارة قمت بها بأنه لا أحد فى ليبيا يحمل ذرة تعاطف مع القذافى ونظامه خارج دائرة أفراد أسرته وقبيلته والمنتفعين به. من هذه الزاوية فإننى أزعم أن تقديم أحمد قذاف الدم بالصورة التى عرضتها الصحيفة المصرية كان عملا سياسيا وليس صحفيا. فلا اسم الرجل فى الأحداث، ولا هو مطروح سواء كقيادى أو بديل فى أى موقع، ولا شعبية له فى الداخل، وكل ما ينسج حوله من شائعات ولغط لا يتجاوز حدود التحريض والمساهمة فى إجهاض الثورة الليبية لصالح القبيلة والمنتفعين. وهو هدف قد يلتقى فى بعض المفاصل مع الجهود التى تبذل لإزالة آثار الربيع العربى وتصفية تجلياته فى مختلف مظانه.
إذا صح ذلك التحليل فإنه يثير السؤال التالى: أين تقف السياسة المصرية من الدور الذى قدم به أحمد قذاف الدم، المعلن منه وغير المعلن؟ ــ مبلغ علمى أنه مطلوب سياسيا وقضائيا من قبل سلطات الثورة الليبية ضمن ثمانية آخرين من أزلام النظام السابق. ولكن لأنه يحمل الجنسية المصرية فإن القاهرة رفضت تسليمه، ولايزال الرجل طليقا يمارس أنشطته المختلفة. لكن الأمر ليس بهذه البراءة دائما، لأننا نفهم ان شخصا مثيرا للغط مثله حين يقدم فجأة بذلك السخاء الذى رأيناه، فإن ذلك لا يعد سلوكا عاديا وإنما عادة ما تكون وراءه حسابات معينة، سواء للنظام أو لبعض الجهات المنسوبة إلى النظام. وإذا وضعنا إلى جانب الحدث الذى نحن بصدده لقطات أخرى من قبيل ما أثير من لغط حول دور مصر فى الغارة على بعض المواقع فى طرابلس، ومساندة مصر لفريق دون آخر فى الساحة الليبية، والشائعات التى جرى الترويج لها بخصوص ما سمى الجيش المصرى الحر فى درنة، والحديث الدائر عن شرعية التدخل المصرى فى ليبيا ــ إذا وضعنا ذلك كله جنبا إلى جنب فإنه يبعث برسالة سلبية إلى الحكومة الليبية، فى حين يضاعف من إلحاحنا على محاولة التعرف على مدى تدخل الحسابات السياسية فى استدعاء ملف السيد أحمد قذاف الدم وتقديمه بحسبانه «قياديا» ليبيا مع تحصينه بالجنسية المصرية.