فهمي هويدي
إحدى مفاجآت عيد الأضحى هذا العام أننا فى القاهرة فوجئنا صبيحة اليوم الأول بظهور كم لافت للنظر من صور النشطاء المعتقلين مكبرة ومعلقة على لوحات الإعلانات فى بعض الأماكن العامة. كانت رسالة الصور واضحة فى أنها من قبيل التذكير والتنبيه إلى أنه فى الوقت الذى يحتفل فيه الجميع بالعيد، فإن آخرين من المصريين والمصريات قضوا عيدهم ظلما فى الزنازين وراء قضبان السجون. وهذه الرسالة كتبت على صورة كل واحد منهم: محمد سلطان ــ أحمد دومة ــ إبراهيم اليمانى ــ أحمد ماهر ــ سناء سيف ــ يارا سلام ــ أحمد جمال زيادة ــ محمود محمد ــ محمد يوسف (ميزا) ــ رانيا الشيخ ــ صهيب عماد ــ وليد السامرى ــ مصطفى عبدالحى... إلخ.
اللوحات المكبرة والملونة أخرجتهم من السجون واستحضرتهم فى شوارع الجيزة، لكى يلقى عليهم المارة تحية الصباح، قائلين لهم كل سنة وأنتم أحرار فى مصر الحرة. لا أعرف من فعلها. من أطلق تلك الفكرة المدهشة التى اتسمت بالابتكار والجرأة والتحدى. كما اننى لا أعرف من غامر بتعليق تلك الصور على لوحات الإعلانات فى ليلة العيد، والكل مشغول بطقوس اليوم التالى. ولا استطيع أن أدعى أن الأجهزة الأمنية تسامحت معهم وغضت الطرف عما فعلوه، لأننى قرأت فى اليوم الثانى للعيد انه ألقى القبض على شابين فى الثامنة عشرة من العمر بالجيزة لأنهما كانا يكتبان عبارات قالت الصحف انها كانت مسيئة للجيش والشرطة. وإذا تذكرت ان طالبة جامعية أمضت عشرة أشهر فى السجن لمجرد أنها علقت دبوسا حمل شارة رابعة على قميص ارتدته، فسوف تستبعد على الفور فكرة التسامح من جانب الأجهزة الأمنية مع الذين أخرجوا النشطاء من السجون ووزعوهم على الشوارع لكى يستدعى كل عابر مظلوميتهم. من ثم فغاية ما نستطيع أن نقوله إن الأجهزة غفلت عنهم فلم ترصدهم ولم ترهم، وشاء ربك أن تصل الرسالة كاملة انتصارا للمظلومين فى مناسبة العيد. فى إشارة موحية إلى أن هؤلاء إذا كانوا قد حرموا من قضاء العيد مع ذويهم وأهاليهم. فقد أخرجتهم صورهم من محبسهم لكى يقضوا العيد فى فضاء الوطن.
المشهد كما رأيته كان مظاهرة سلمية استلهمت أجواء ثورة 25 يناير. التى كانت الحرية إحدى شعاراتها، إلى جانب العيش والكرامة الإنسانية. أهم ما فى المظاهرة انها جسدت الإجماع ووحدت الرؤية. الأمر الذى أدى إلى تراجع وتذويب الهويات والانتماءات. ومثلما رفعت ثورة يناير شعار الحرية للجميع، فإن انتفاضة اللافتات تسلمت الراية ذاتها ولم تذهب إلى أبعد من نشدان الحرية للجميع. وكما ان المجهولين هم الذين أطلقوا شرارة ثورة 25 يناير وحملوها، فقد اكتشفنا صبيحة يوم العيد ان تلك السلالة النبيلة لم تنقرض رغم مضى نحو أربع سنوات على الثورة. حيث انشقت أرض مصر عن آخرين من المجهولين الذين رتبوا الأمر بعيدا عن الأعين وخرجوا فى ظلام الليل لكى يوزعوا صور النشطاء فى الأماكن العامة، حتى بدت كل صورة وكأنها نداء يجدد الدعوة إلى حرية الجميع.
تجاهل الإعلام المصرى الحدث، ولكن مواقع التواصل الاجتماعى أذاعت الخبر، ومكنتنا من رؤية الصور معلقة فى الشوارع والميادين العامة. الأمر الذى استدعى سيلا من التعليقات التى كانت الحفاوة والتضامن محورا لها. من جانبى اعتبرت أن التضامن موقف شريف يستحق التسجيل. إلا أن الخبر الأهم عندى ان سلالة ثورة 25 يناير لم تختف من الساحة المصرية، رغم كل محاولات الطمس والتشويه والتعتيم. صحيح أن هؤلاء المجهولين لا يظهرون على الشاشات ولا يدعون إلى حلقات الحوار التى ينتقى لها المهللون والمصفقون، ولكن الأيام أثبتت أنهم لايزالون يرفعون الراية، وانهم يدفعون ثمن وفائهم لشعارات الثورة. بشهادة أعدادهم القابعة فى الزنازين الآن. ولا تفوتك ملاحظة الإجراءات المشددة التى تتخذ الآن لتحويل الجامعات إلى محتشدات أمنية يراقب فيها الطلاب والأساتذة وتحكم القبضة على الأنشطة المختلفة، كما يلوح بسيف القمع والفصل لكل من تسول له نفسه أن يتجاوز الحدود المرسومة. هذه الإجراءات دليل على المدى الذى بلغه قلق المؤسسة الأمنية من ذلك المجهول الموجود وغير المرئى، بالمقابل فإن التشدد المبالغ فيه سواء من جانب النيابة والقضاء أو من جانب القيادات الجامعية الأمنية يوحد من صفوف المجهولين ويقنعهم بأنهم يواجهون تهديدا واحدا يفرض عليهم الاستعلاء فوق تمايزاتهم واختلاف تياراتهم.
إن الملحوظة الأساسية التى يخرج بها المرء من التدقيق فى الخرائط السياسية المصرية هى ان البلد أكبر من ان تستوعبه المؤسسة الأمنية، وان ثمة عوامل عدة تدل على أن السيطرة على شعب تعداده 90 مليون نسمة، فى ظل ثورة الاتصال الراهنة أمر بالغ الصعوبة وباهظ التكلفة. الأمر الذى يفتح الباب واسعا لاحتمالات التغيير فى اتجاهات الرأى العام. وهو ما يدركه ويلمس شواهده أى مشتغل بالعمل العام. حين يراقب مؤشرات المزاج العام فى 30 يونيو من العام الماضى ويقارنها بنظائرها فى الوقت الراهن.
لن يستريح لنا ضمير، ولن يهدأ لنا بال، بل اننا لن نستطيع أن نطمئن إلى حاضر مصر ومستقبلها طالما ظلت تتردد فى فضائها السياسى عبارات من قبيل الحرية لكل سجين ــ جبنا (بلغنا) آخرنا ــ الحرية للجدعان ــ يموتون لنحيا ــ هاتوا بناتنا من الزنازين ــ اطلقوا الأطفال المعتقلين.
إن الأزمة التى نواجهها لا تكمن فى البحث عن حل، لكنها باتت فى مجرد تحرير المشكلة التى يفضل البعض تجاهلها وإنكارها.