فهمي هويدي
من علامات موت السياسة المرحلى فى مصر ان ضجيجها صار مقصورا على الفضاء الإعلامى، فى حين لا نكاد نرى له صدى على الأرض.
(1)
أتحدث عن سيل التقارير والأخبار التى صرنا نتابعها بصورة يومية على صفحات الصحف والبرامج التليفزيونية، وتدور حول ترتيبات خوض الانتخابات التشريعية التى يفترض أن تتم فى 18 يوليو المقبل. إذ طبقا لقانون مجلس النواب الجديد فإن 80٪ من مقاعد البرلمان (567 مقعدا) ستكون من نصيب الأفراد والعشرين فى المائة الباقية ستخصص للأحزاب. وهذه النسبة الأخيرة تمثل 120 مقعدا يفترض ان يتنافس عليها نحو 80 حزبا سياسيا. صحيح ان الأحزاب رافضة لهذه القسمة. ولاتزال تطالب بإعادة النظر فى مواد القانون، إلا أن ذلك مجرد احتمال ليس أكيدا. ولذلك فإنها تتصرف فى الوقت الراهن كأن القانون سيظل كما هو بغير تعديل.
بسبب من ذلك فإن وسائل الإعلام ما برحت تتحدث عن صيغ مختلفة للاحتشاد من خلال عقد التحالفات والائتلاف والجبهات بين المجموعات السياسية المختلفة. وهذه تعانى من أكثر من مشكلة حيوية، أهمها انها غير معروفة لدى الرأى العام، والمعروف منها محصور فى نطاق «الشلل» السياسية، التى لا تكاد ترجح كفة أى مرشح فى انتخابات عامة. من تلك المشكلات أيضا ان قادة تلك الأحزاب يتوزعون على أربع فئات. الأولى قيادات لا شعبية لها برزت على السطح فى ظل نظام مبارك وتعانى من الإعاقة السياسية بحكم ظروف تكوينها، والثانية قيادات اندفعت إلى ساحة العمل السياسى بعد الثورة بغير خبرة سابقة ولا قاعدة شعبية، وأغلبهم ان لم يكن كلهم لايزالون فى عداد الهواة. هناك فئة ثالثة من القيادات التى أحيلت إلى التقاعد من وظائفها التنفيذية ووجدت فى الانشغال بالعمل السياسى مجالا لإثبات الحضور واستثمارا ايجابيا للتاريخ الوظيفى. الفئة الرابعة تتمثل فى أركان النظام السابق وفلوله الذين وجدوا الظروف مواتية لاستعادة دورهم ومواقفهم فى الساحة السياسية، بعدما تحققت عودتهم على الصعيد الأمنى.
(2)
إن شئنا ان نتصارح أكثر، فلا مفر من الاعتراف بثلاثة أمور، أولها أنه لا توجد لدينا أحزاب سياسية حقيقية، ولكننا بإزاء شخصيات مهتمة بالسياسة، بعضها وازنة ومحترمة. وحول كل واحد منهم شلة من الأصدقاء والمريدين، وفى أكثر من ندوة وحوار قلت ان الحديث عن تيارات سياسية فى مصر قومية أو ليبرالية أو ناصرية أو حتى يسارية فيه الكثير من المبالغة والافتعال. صحيح أن لدينا أشخاصا يرفعون تلك اللافتات عن قناعة فى الأغلب. ولكن لم ينجح أى منهم فى أن يحول العنوان إلى تيار له تأثيره فى موازين القوى. لأسباب يتعلق بعضها بطبيعة الأشخاص، والبعض الآخر بطبيعة الظروف المحيطة.
من المفارقات التى تذكر فى هذا الصدد ان التفاف ما يسمى بالقوى المدنية حول شخصيات بذاتها برزت فى ظروف معينة، هو ذاته ما حدث فى محيط السلفيين الذين شكلوا فى ظل النظام السابق نحو 16 حزبا، كانت كلها تعبيرا عن شلل التفت حول شيوخ بذواتهم. ولم يكن بينها خلاف فكرى جوهرى.
الأمر الثانى ان الخلاف بين المجموعات أو التحالفات السياسية ليس حول برامج أو مبادئ فإنما هو بين أشخاص وأنصبة، وان كنت استثنى من ذلك شلل اليسار. وفى حالة القوائم فإن ترتيب الأسماء فى كل قائمة محل صراع لا يستهان به، لأن رأس القائمة هو الذى يكتسب العضوية فى حالة الفوز. ولذلك فإن كل مجموعة تبحث عن قائمة تحتل فيها موقعا متقدما.
الأمر الثالث اننا لا نكاد نلمح خلافا ذا قيمة فى برامج التحالفات والجبهات الجارى تشكيلها، ولكن التقارير المنشورة تشير إلى انها تتفق على أمرين أساسيين هما مساندة الرئيس عبدالفتاح السيسى وتكوين أغلبية تسانده فى البرلمان (من عناوين الأهرام فى 15/6 «جبهة دعم الرئيس تتعهد بتصحيح المسار» و«تحالف برلمانى أم ظهير رئاسى») ــ الأمر الثانى هو العمل على قطع الطريق على عودة الإخوان إلى الحياة السياسية من أى باب (جريدة الشروق نشرت فى 22/6 على لسان أحد ممثلى مجموعة «مصر بلدى» قوله إنهم يسعون إلى تشكيل ائتلاف يستهدف ضمان عودة الإخوان خلال المائة سنة المقبلة). وحين يلاحظ المرء ذلك التوافق حول المسألتين فإنه لا يستطيع أن يخفى دهشته إزاء غياب الأصوات التى تتحدث عن الرقابة على أداء الحكومة أو الدفاع عن الديمقراطية أو حتى الدفاع عن شعارات ثورة يناير 2011 (العيش والحرية والكرامة الإنسانية).
فى الحديث عن التحالفات يستوقفنا نموذج لا يحتاج إلى تعليق تحدثت عنه صحيفة «الأهرام» فى عدد 15/6، إذ نشرت تحت عنوان «أول تكتل نسائى» ما يلى: أعلنت المستشارة تهانى الجبالى عن تشكيل أول تحالف نسائى ليخوض الانتخابات البرلمانية. ليكون ظهيرا نسائيا للرئيس السيسى داخل البرلمان، وليتنافس على تشكيل الحكومة إذا ما حصل على الأغلبية. تحالف الجبالى الذى أعلنت عنه أخيرا سوف يضم أيضا مختلف القوى الثورية والشباب ويقود الانتخابات البرلمانية المقبلة.. ولأجل ذلك تم التنسيق مع بعض الجهات السيادية(؟!) وقد كلفتها تلك الجهات بإعداد أربع قوائم ستقود إحداها حتى الفوز برئاسة البرلمان، كما انها ستنسق للخوض مع تحالفها للمنافسة على معظم المقاعد الفردية.
(3)
ما سبق يوفر لنا خلفية تمكننا من رصد المعالم الأساسية للبرلمان الجديد. فهو برلمان بلا معارضة (لا تنس ان أحدهم ذكر انه لا تجوز معارضة النظام الجديد. وليس غائبا أذهاننا ما أصاب أركان النظام وأعوانه الذين تحفظوا على بعض الإجراءات واختلفوا حولها فجرى التشهير بهم واتهموا بأنهم ضمن الطابور الخامس). ولن يكون ذلك مستغربا بعدما أعلنت أغلب التحالفات عن انها داخلة لمساندة الرئيس السيسى. والتأييد لن يكون مقصورا على «الأحزاب» رغم هامشية دورها، ولكنه سوف يتعزز بأصوات شاغلى المقاعد الفردية، الذين ستحملهم إلى المجلس عصبياتهم العائلية والجهوية أو قدراتهم المالية. علما بأن الأصل أن أغلب هؤلاء مع كل نظام. وإذا استطاعت شبكات المصالح ان تدفع ببعض رجالها إلى المجلس، فهؤلاء سيظلون محسوبين ضمن أعوان النظام الجديد، رغم ارتباط جذورهم بالنظام القديم، خصوصا ان ساحات التناقض بين النظامين تقلصت كثيرا خلال الأشهر الأخيرة، وموقف مبارك من السيسى معبر عن هذه الحقيقة.
هذا التقدير إذا صح فهو يعنى أن تمثيل ثوار 25 يناير فى المجلس سيكون متواضعا إلى حد كبير إن لم يغب تماما. ولن يغير من ذلك كثيرا ان يستخدم رئيس الجمهورية حقه القانونى فى سد الثغرة وتعيين بعضهم فى المجلس (مجموع المقاعد 567 والمعينون عددهم 27 فقط).
غياب الدور الفاعل للأحزاب السياسية لن يكون مفاجئا. وربما نسى كثيرون ان الموضوع كان محل بحث ومناقشة عام 2011 فى لجنة التعديلات الدستورية التى رأسها المستشار طارق البشرى. وهو صاحب الرأى القائل بأن الدستور (أو القانون) لا ينطلق من فراغ، ولكنه يعظم ما هو قائم، فيفسح أو يضيق ويثقل أو يخفف. وكان قد أشار فى كتابه «مصر بين العصيان والتفكك» إلى أن دستور 1923 أتاح قدرا من التداول فى السلطة، لأن المجتمع كان فيه تعدد لقوى سياسية واجتماعية متبلورة فى تنظيمات وتكوينات سياسية. ولم يكن فى مقدور أى من تلك القوى أن تنفى الأخريات فى الواقع السياسى والاجتماعى.
هذه الفكرة جرى استحضارها حين تعرضت مناقشات لجنة التعديلات الدستورية لموضوع توزيع المقاعد بين الفردية والقوائم. ورؤى آنذاك أن الخواء السياسى مخيم، وان خريطة الأحزاب تتنازعها أحزاب مشوهة ومرفوضة خارجة لتوها من نظام مبارك، وأخرى جنينية فاقدة القوام ومجهولة الهوية، وغير معروفة لدى الرأى العام. وبدا واضحا ان أحزابا بذلك الضعف سوف تتستر عليها القوائم وتخفى هشاشتها. فتقرر تخصيص ثلث المقاعد للقوائم والثلثين للمقاعد الفردية. واستفاد السلفيون من ذلك حين ترشحوا على الجانبين باعتبارهم موجودين على الأرض. فكانت نسبة نجاحهم بين مرشحى المقاعد الفردية 15٪، ولكن القوائم رفعت نسبتهم، لأنهم حصلوا من خلالها على 29٪.
فى الوقت الراهن فإن القوائم خصص لها خمس المقاعد وليس ثلثها كما حدث فى برلمان 2012 الذى جرى حلُّه بقرار أصدرته المحكمة الدستورية. وكان تضاؤل تلك النسبة تعبيرا آخر عن تهافت الدور الذى تقوم به الأحزاب فى الساحة السياسية.
(4)
الصورة لا تبدو مشرقة، لكنها ليست صادمة. ذلك ان الخروج من عقود الاستبداد إلى آفاق الحرية والديمقراطية ليست أمرا هينا ولا سهلا. وقد ذكرت من قبل فى أكثر من موضع ان المستبدين يدمرون الحاضر ويشوهون المستقبل. إذ باستبدادهم يدمرون ركائز المجتمع ويعملون على إضعافه. وحين يحرقون بدائلهم ويفقدون المجتمع عافيته فإنهم يشوهون المستقبل.
من ناحية أخرى فالقضية متجاوزة حدودنا. وفى الصحافة الغربية حوارات جادة حول أوضاع الديمقراطية وانحسار موجاتها فى مناطق عدة من العالم. ففى مقال أخير كتبه فرانسيس فوكوياما الأستاذ بجامعة ستانفورد وصاحب البحث الشهير عن «نهاية التاريخ»، قال ان تحقيق الديمقراطية يحتاج إلى وقت، لأنه ليست هناك ديمقراطية سريعة. واستحضر فى هذا الصدد مثال ثورات الربيع الأوروبى فى عام 1848 (الثورة الفرنسية) مشيرا إلى أن الديمقراطية لم تتماسك فى ظلها إلا بعد سبعين سنة. كما نبه إلى أن العالم يواجه فى الوقت الراهن ركودا ديمقراطيا (وول ستريت جورنال ــ 6 يونيو 2014). وكانت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية ذائعة الصيت قد نشرت فى عدد الأول من مارس فى العام الحالى ملفا على ست صفحات حاولت فيها الإجابة على السؤال: ما الذى جرى للديمقراطية فى العالم؟. وقد انطلق البحث من فرضية اعتبرت أن الديمقراطية تمر بوقت عصيب فى الوقت الحاضر. من ناحية لأن النظم الديكتاتورية تسقط ولكن المعارضة تفشل فى إقامة نظم ديمقراطية صحيحة وثابتة. من ناحية ثانية فإن الدول الديمقراطية العريقة تعانى من القلق ويسودها عدم الثقة. وهو ما كان مستبعدا منذ سنوات قليلة، حين ساد التفاؤل بأن الديمقراطية ستسود العالم.
أشارت الدراسة إلى أن الديمقراطية حققت نجاحات مشهودة فى النصف الثانى من القرن العشرين. فى ألمانيا والهند وجنوب أفريقيا واليونان وإسبانيا وفى بعض دول أمريكا اللاتينية وبعد سقوط الاتحاد السوفييتى. وفى سنة 2000 أحصى مركز «فريدم هاوس» 120 دولة بنسبة 63٪ من دول العالم رفعت عليها رايات الديمقراطية. إلا أن التقدم الذى حدث فى النصف الثانى من القرن العشرين توقف مع حلول القرن الواحد والشعرين. وذكرت فريدوم هاوس ان عام 2013 كان العام الثانى الذى تنحسر فيه الديمقراطية. الأمر الذى نبه الجميع إلى أن سقوط الاستبداد لا يعنى بالضرورة انتصار الديمقراطية. واستند باحثو الايكونوميست إلى شواهد عدة خلصوا منها إلى أن الديمقراطية شاخت فى الغرب وأصبحت قرينا للمديونية والتعثر الداخلى. أما فى خارجه فالملاحظة انها ما أن تتقدم حتى أصبحت تفشل وتسقط. وهو كلام استحضره لا لكى نتشاءم ولكن لكى نفتح أعيننا جيدا بحيث ندرك أننا فى مصر نمر بشوط فى رحلة الإقلاع، وأن تحقيق أهداف الثورة يحتاج إلى وقت أطول، وما نحن فيه الآن هو البدايات فقط.