لا أريد أن اصدق أن وزير التعليم العالى فى مصر ينفذ الآن مشروعا لتحويل الأساتذة والطلاب فى الجامعات إلى مخبرين يعملون لحساب أجهزة الأمن. لكن جريدة الشروق نعت إلينا الخبر يوم 27 يناير. ومنذ ذلك الحين وحتى أمس (8 فبراير) لم يكذب مضمونه أو يصوب أو يوضح لنا أحد ملابسات تلك الفضيحة، ليس ذلك فحسب، وانما كان مدهشا أيضا أن الخبر لم يكن له صدى يذكر فى أوساط المثقفين خارج الجامعات.
التقرير الذى نشرته «الشروق» على ثمانية أعمدة تضمن المعلومات التالية:
• أن ثمة غضبا داخل الجامعات بسبب مشروع «لجان التواصل الطلابى» التى تتبع وزارة التعليم العالى مباشرة. إذ رفض بعض رؤساء الجامعات تشكيلها باعتبارها كيانات موازية تثير البلبلة فى حين أن هناك هياكل تنظم أنشطتهم بصورة مشروعة وقانونية. فى الوقت ذاته ذكر رئيس جامعة كفر الشيخ الدكتور ماجد القمرى أن الوزير أخطر الجامعة منذ اربعة اشهر باختيار مسئول لجنة التواصل، لكن الموضوع غير مفهوم ويصعب الحكم عليه الآن. ومن ثم يجب الانتظار بعض الوقت لكى نعرف ما إذا كانت تلك اللجان موازية أو بديلة فى اتحادات الطلاب ورعاية الشباب أم لا.
• اثنان من رؤساء الجامعات ـ طلبا عدم ذكر اسميهما ـ ذكرا أن تشكيل تلك اللجان داخل الجامعات وتبعيتها للوزارة مخالف للقانون والدستور من ناحية، لأن ذلك يعد تدخلا مباشرا من الوزير فى شئون الجامعات وهو ما لا يجيزه القانون. فضلا عن أن تشكيل اللجان يخالف التعديلات التى أدخلت على قانون تنظيم الجامعات، لأنها تمثل شكلا من أشكال العمل السياسى أو الحزبى. أضافا أيضا أن الوزير بذلك يورط الحكومة والجامعات فى أطر غير مقبولة على الإطلاق ويوحى بأن الوزارة تنشئ كيانات للتلصص داخل الجامعات.
• لفت رؤساء الجامهعات النظر إلى أن ما يفعله الوزير يفتح الأبواب لزيادة التطرف فى الجامعات، لأن شبابها والحركة الطلابية عموما شديدة الحساسية ازاء تدخلات السلطة التنفيذية فى شئونها، وقالوا إن الوزير فاجأ الجميع بمشروعه وتم اختيار مسئولى لجان التواصل بدون علم القيادات الجامعية.
• الدكتور خالد العيسوى منسق الأنشطة بجامعة بنها علَّق على فكرة قيام لجان التواصل بتقديم «مبادرات» من الأساتذة والطلاب «الوطنيين» للإبلاغ عن زملائهم، فقال إن هذا الكلام إذا صح فإننا نصبح إزاء مصيبة فى الجامعات تفتح الباب للبلبلة والفتنة. لان الاستاذ ليس من وظائفه ان يكون جاسوسا كما أنه ليس للطالب أن يكون رقيبا على زملائه. وقد نفى الدكتور حسام الدين مصطفى رئيس لجنة التواصل الاجتماعى بوزارة التعليم العالى ذلك الاحتمال ومما قاله إن جميع أساتذة وطلاب الجامعات وطنيون «ولا نقبل أن يتجسس أحد على زملائه».
لا يستطيع المرء أن يغلق فمه من الدهشة وهو يقرأ هذه المعلومات. وتتضاعف دهشته حين يقارن محتواها بمضمون المادة 21 من الدستور التى تقرر أن الدولة تكفل استقلال الجامعات.. وتوفير التعليم الجامعى وفقا لمعايير الجودة العالمية، ذلك أن الذى بين أيدينا نموذج لإهدار استقلال الجامعات وجهد يستهدف تخريبها من الداخل وليس النهوض بها وفقا لمعايير الجودة العالمية.
كما ذكرت مادة الدستور وقد ذكرت فى السطر الأول أننى لا أريد أن اصدق الكلام، وتمنيت أن يصدر أى تكذيب له وحتى تصويب يخفف من وقعه عند القارئ، ولكن ذلك لم يحدث للأسف الشديد. لذلك أصبحت أكثر ميلا لتصديقه لأن مقدماته لاحت قبل عدة اسابيع حين طرحت فكرة تجنيد من سُمُّوا الطلبة الوطنيين للوشاية بزملائهم المعارضين فى الجامعات واعترف بذلك صراحة نائب رئيس جامعة الازهر. والى جانب ذلك فإن التقرير تحدث عن مسئول فى وزارة التعليم العالى وصف بأنه رئيس لجنة التواصل الاجتماعى كما نقل عن بعض رؤساء الجامعات آراءهم فى الموضوع، الامر الذى يعنى أننا بصدد فكرة دخلت إلى حيز التنفيذ، وأن الوزير فرضها على الجامعات معتديا على استقلالها ودون علم مجلسها الأعلى وبهذه الفكرة فإنه وضع الأساس لإثارة الفتنة بين الاساتذة والطلاب.
ونقل الانقسام البائس بين الموالين والمعارضين الذى يعانى منه المجتمع المصرى إلى رحاب الجامعات، الأمر الذى يمهد لتفجيرها من الداخل، وهو ما يسىء إلى الوزير ذاته ويجرح شرعية استمراره فى منصبه. حيث لم نر منه مبادرات تتعلق بالارتقاء بالتعليم الجامعى بقدر ما لمسنا منه انشغالا بالامن فى الجامعات وتجنيد الأساتذة والطلاب لصالح الأجهزة الأمنية.
لقد تعرضت الجامعات لإهانات وضربات موجعة خلال الأشهر الاخيرة، وهو ما تمثل فى إطالة فترات إغلاقها، إلى انتهاك الشرطة لحرمة فضاءاتها وإطلاق الرصاص على المتظاهرين داخل حرمها. كما تمثل فى تخويل العمداء سلطة فصل الطلاب المعارضين وصولا إلى تعديل قانون الجامعات بما يسمح بفصل الاساتذة المعارضين أنفسهم دون عرضهم على مجالس التأديب وها نحن باسم تحقيق التواصل الاجتماعى يدعى الأساتذة والطلاب إلى التجسس على بعضهم البعض بحيث تغدو الوشاية بالاخرين من مقتضيات الوطنية!
كارثة أن يحدث ذلك. وكارثة أن يستمر السكوت عليها، وكارثة أن يحاول البعض إقناعنا بأننا جادون فى إقامة الدولة المدنية