فهمي هويدي
الحضور المبكر مهم ولكن الإنجاز أهم. أما الأكثر أهمية من الاثنين فأن يتم ذلك فى ضوء رؤية للإصلاح والنهوض. أتحدث عن القرار الذى أبرزته الصحف المصرية أمس على صفحاتها الأولى، وعلمنا منه أن الرئيس عبدالفتاح السيسى وجه بأن تبدأ الإدارات الحكومية عملها فى الساعة السابعة من صباح كل يوم. وهو أمر مهم أرجو أن يكون المسئولون فى الدولة هم أول من يلتزم به. وسوف يكتسب القرار أهمية خاصة إذا اعتبر الحضور المبكر للعمل فى أجهزة الدولة بمثابة دعوة لإتاحة فسحة أطول لإنجاز مصالح الناس التى تعد تعقيدات الإدارة الحكومية أكبر عقبة تعترض طريقها. ومازلت غير قادر على استيعاب فكرة أن يستمر الإرسال التليفزيونى حتى الثالثة أو الرابعة صباحا، ثم يطلب من الموظفين أن يخرجوا من بيوتهم فى الساعة السادسة ليكونوا فى مكاتبهم فى السابعة. ولست واثقا من أنهم سيكونون فى هذه الحالين صالحين لإنجاز شىء من مصالح الناس. ولا أستبعد أن يتولى بعضهم تعويض نومهم الذى حرموا منه فى المكاتب.
إننى أخشى من الحماس لزيادة ساعات العمل فى إدارات الحكومة. كما أننى لا أخفى عدم ارتياحى لكثرة تحركات المسئولين وحضورهم فى الشارع. ومن ثم حرصهم على أن يظلوا دائما فى دائرة الضوء وعلى شاشات التليفزيون. وأزعم أن كفاءة المسئول لا تقاس بعدد الساعات التى يقضيها فى مكتبه، ولا بعدد الجولات الميدانية التى يقوم بها كل أسبوع. ولدينا خبرة سابقة مع رئيس للوزراء لم يكن يغادر مكتبه، حتى أنه خصص غرفة للنوم ملحقة به. كان يؤثر الاستراحة فيها حتى لا يضيع وقته فى الذهاب إلى بيته والعودة منه. وكانت تجربة الرجل نموذجا لما ينبغى أن يتجنبه أى مسئول. أعنى أن يطول بقاؤه فى المكتب دون أن يحقق إنجازا يذكر، الأمر الذى يذكرنا بنموذج الذى يركض كثيرا دون أن يتقدم خطوة إلى الأمام.
خبراء الإدارة لهم كلام نفيس فيما نحن بصدده. وعندهم أن المسئول يفكر ويخطط ويراقب على البعد، فى حين أن مساعديه وأجهزته هم الذين يقومون بعملية التنفيذ. وكفاءته تقاس بمقدار انتظام العمل وتقدمه فى غيابه وليس فى وجوده. بما يعنى أن المرفق يديره نظام ومسئولون أكفاء ينفذون ويراقبون. وليس وزيرا يستهلك جهده ووقته فيما ينبغى أن يقوم به غيره.
التجربة الماليزية تقدم نموذجا جيدا لما أدعو إليه. ذلك أن رئيس الوزراء الدكتور مهاتير محمد حين تولى السلطة فى عام 1981 فإن أول قرار أصدره دعا فيه إلى بدء العمل فى دواوين الحكومة فى وقت مبكر. وقال صراحة إنه يتطلع بذلك إلى تغيير نمط حياة الماليزيين. ولم يكتف بالدعوة إلى تغيير عادات الماليزيين ولكنه أولى اهتماما كبيرا بتنمية الموارد البشرية. وظل تركيزه الأكبر كان على التعليم الذى خصص له ربع الموازنة العامة. وعمل على الارتقاء بكل مراحله من رياض الأطفال إلى الجامعات الدراسات العليا. وبالنسبة للأطفال فإنه وضع كل المدارس تحت رعاية الدولة ولم يسمح للقطاع الخاص أن يتاجر بالعملية (كما هو الحاصل عندنا). وقام بتزويد جميع المدارس الأخرى بالانترنت ووسائل الاتصال الحديثة. وإضافة إلى ذلك فإنه أوفد آلافا من الطلاب الماليزيين للدراسة فى الخارج، الأمر الذى مكنه لاحقا من التوسع فى إنشاء الجامعات التى وصل عددها الآن إلى أكثر من 500 جامعة. وبالتوازى مع كل ذلك فإنه توسع فى التعليم الفنى والتدريب المهنى.
المهم أنه خلال السنوات التى أمضاها مهاتير محمد فى السلطة فإنه نجح فى مضاعفة متوسط دخل الأسرة الماليزية من مائة دولار إلى 16 ألف دولار سنويا. وحقق ما يمكن أن يوصف بأنه معجزة اقتصادية وتنموية، وضعت ماليزيا فى الصف الأول مما عرف باسم النمور الآسيوية.
الإنجاز الذى حققه مهاتير محمد أسهم فى صنعه عنصران أساسيان. الأول هو الرؤية الاستراتيجية الشاملة التى تم فى ظلها ترتيب الأولويات. إذ رغم أنه درس الطب، إلا أنه كان مهجوسا بهموم بلده فى وقت مبكر. وعبر عن مشاعره تلك فى الكتاب النقدى الجرىء الذى ألفه فى عام 1970 بعنوان «معضلة الملايو» وهو ما دفعه للانضمام إلى «منظمة الملايو القومية المتحدة». الأمر الذى أوصله إلى رئاسة الحكومة فى عام 1981. وحين تولى السلطة فإنه انشغل مع الخبراء الماليزيين بوضع خطة النهوض بماليزيا خلال عشر سنوات ثم بعد عشرين سنة، وفى الخطة أولى التعليم اهتمامه الأكبر ومعه التنمية البشرية، ثم حدد أهدافا واضحة للقطاعات الأخرى مثل الصناعة والسياحة وغير ذلك. (زرع مليون شجرة زيت نخيل خلال عامين).
الاعتبار الثانى الذى ساعد الرجل على تحقيق الإنجاز فى بلاده هو أنه حافظ على الوئام المدنى ومن ثم السلم الأهلى بين العناصر الثلاث المكونة للبلد (الملاويون والصينيون والهنود)، وهو ما أشاع جوارا من الاستقرار سمح له بأن يواصل رسالته طوال 21 عاما، إلى أن قدم استقالته فى عام 2003 مكتفيا بما أنجزه.
إن السؤال المهم الآن هو: إلى أى دائرة ينتمى قرار الحضور فى الساعة السابعة صباحا، وهل هو دعوة إلى الانضباط وعسكرة دواوين الحكومة أم أنه خطوة تترجم فكرة تحسين الخدمة التى تقدم إلى الناس، أم أنه جزء من رؤية للمستقبل. ربما كان مبكرا طرح هذه الأسئلة فضلا عن تعذر الإجابة عنها فى الوقت الراهن، مع ذلك أرجو أن تتفق معى على أهميتها.