فهمي هويدي
نقرأ هذه الأيام لغة جديدة فى عناوين الصحف السعودية. فعبارات مثل ترشيد الإنفاق وتنويع مصادر الدخل والإصلاح الاقتصادى والهيكلى قد تبدو غريبة وربما ملتبسة لدى القارئ العادى الذى تشكل إدراكه فى ظلال زمن الوفرة الذى غاب عند الحذر فى الإنفاق. إلا أن ذلك اليقين بدأ يهتز منذ بداية العام الحالى. حين تراجعت أسعار النفط بشكل ملحوظ. وكان الظن أن الأمور ستنصلح فى النصف الثانى من العام. إلا أن التوقعات خيبت الظنون، بحيث استمر تراجع الأسعار مما أشاع جوا من القلق والخوف. إذ فى حين كان سعر برميل النفط فى شهر يناير الماضى يتراوح ما بين ٧٣ و٧٥ دولارا. فإنه فى أوائل شهر ديسمبر وصل إلى ما يتراوح بين ٣٣ و٣٦ دولارا. بما يعنى أن سعر البرميل الواحد تراجع بما يعادل ٤٠ دولارا خلال السنة. وهو ما دفع البعض إلى وصفها بأنه «عام أسود»، وكان طبيعيا أن يستصحب ذلك تراجعا فى التفاؤل وتشاؤما مما يمكن أن يأتى به العام الجديد.
بسبب الانخفاض الذى خيب آمال المنتجين فإن الدول النفطية، خسرت خلال العام ما يعادل ٥٠٠ مليار دولار، طبقا لتقدير صندوق النقد الدولى الذى أعلن فى ٢٧/١٢. إلا أن صحيفة «الحياة اللندنية نشرت فى اليوم ذاته تقريرا ذكر أنه إزاء تراجع أسعار النفط إلى معدل لم تبلغه منذ ١١ عاما، فإن الدول والشركات المنتجة التى تعتمد فى دخلها على ضخ نحو ٣٥ بليون برميل سنويا فى الأسواق تحملت خسائر فى «العام الأسود» قاربت ١.٤ تريليون دولار. وبإضافة خسائر المستثمرين فى أسهم شركات الطاقة التى قاربت ٧٠٠ بليون دولار، فإن ذلك يعنى أن خسائر المنتجين والمستثمرين تصبح تريليونى دولار على مدى العام. وهو رقم مهول لابد أن يكون له آثاره السلبية على حركة الاقتصاد العالمى.
لأن مصائب قوم عند قوم فوائد فإن أكبر المستفيدين من التدهور الحاصل فى أسعار النفط هى الدول التى تعتمد على الطاقة المستوردة (على رأسها الصين والهند) إضافة إلى دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادى. إلا أن الأضرار ستكون من نصيب الدول المنتجة والدول المعتمدة على مساعدات الدول الأخيرة. الأمر الذى لابد أن يكون له صداه على مشروعات التنمية وتدفقات العمالة والتحويلات النقدية التى تقدر بنحو ٢١ مليار دولار من دول الخليج وحدها.
هذه الخلفية تكمن وراء لغة الترشيد التى ظهرت فى الخطاب الجديد وأبرزتها الصحف السعودية، وكانت لها أصداؤها فى وسائل الإعلام الخليجية الأخرى. أغلب الدول المنتجة لم تدخل مرحلة الأزمة، لأن لديها احتياطات وفيرة تغطى احتياجاتها فى الأجل المنظور (احتياطى السعودية يتجاوز ٧٠٠ مليار دولار والإمارات ٨٧ مليارا وقطر ٤٦.٥ مليار والجزائر ١٨٥ مليارا)، ولذلك فإن تأثير انخفاض أسعار النفط على اقتصادها ومشروعات التنمية فيها سيظل محدودا ومحتملا، إلا أن أيديها لن تظل مبسوطة كما كانت وطموحاتها ستعود إلى التحرك على الأرض، بدلا من التحليق فى الفضاء. ومن الطبيعى فى هذه الحالة أن يكون الأثر الأكبر المترتب على انخفاض الأسعار من نصيب الإنفاق الخارجى المتمثل فى المساعدات التى تقدمها الدول النفطية للدول الأخرى.
ميزانية المملكة العربية السعودية التى أعلنت يوم الاثنين الماضى ٢٨/١٢ عكست الوضع الجديد. إذ أعلن أن ثمة عجزا فى الموازنة بلغ ٩٨ مليار دولار (فى وقت سابق نشر أن المملكة سحبت ٨٠ مليار دولار من الاحتياطى). وذكر أن الملك سلمان بن عبدالعزيز وجه مجلس الشئون الاقتصادية والتنمية لوضع برنامج للإصلاحات الاقتصادية والمالية الشاملة لترشيد التعامل مع الموقف المستجد. فى الوقت ذاته أصدر مجلس الوزراء قرارا بتعديل أسعار الطاقة والمياه والصرف الصحى بما يتوافق مع الأسعار العالمية كما قرر وضع خطة متكاملة لترشيد استهلاك منتجات الطاقة والمياه. ومثل هذه الإجراءات لا تنفرد بها المملكة لكنها تمثل توجها عاما فى بقية دول الخليج النفطية التى تأثرت مداخيلها بانخفاض أسعار النفط إلى النصف تقريبا.
إذا كان لذلك التراجع من فضيلة فإنه يعد جرس إنذار ينبه إلى محاذير الاعتماد فى الدخل العام على مصدر واحد قابل للنضوب وخارج عن السيطرة. وهو ذات المحظور الذى تقع فيه كل دولة تعول على مصدر خارجى للدخل مثل القروض والمعونات أو حتى السياحة الأجنبية. ذلك أن تلك كلها مصادر مؤقتة ينبغى لها ألا تحجب العنصر الأهم المتمثل فى إعطاء الأولوية للإنتاج المحلى الذى تقدمه سواعد أبناء الوطن. على أن يكون كل ما عدا ذلك عنصرا مساعدا ومكملا، يشجع ويرحب به فى تلك الحدود.
إذا سمع جرس الإنذار جيدا. وحقق مراده فى الإيقاظ والتنبيه والترشيد فإن ما نراه أزمة يمكن أن يصبح فرصة. وتظل العبرة معقودة على تسلم الرسالة واستيعاب فحواها، بحيث لا يظل خطاب الترشيد مقصورا على عناوين الصحف، وإنما يترجم إلى واقع يرجى أن يقدم فيه أولو الأمر النموذج ويضربون المثل الذى يحتذى. قولوا إن شاء الله.