فهمي هويدي
لدى بضع ملاحظات أردت أن أنبه إليها بعدما تابعت أصداء واقعة التحرش التى حدثت فى ميدان التحرير بالقاهرة يوم الأحد 8/6:
إن الصدى الإعلامى كان قويا فى تعبيره عن الاستنكار والغضب، وعبرت وسائل الإعلام عن الانفعال حتى أن إحدى صحفنا طالبت بإعدام المتحرشين فى حين تواضع صوت آخر طالب بالاكتفاء بإخصائهم. وأحسب أننى لست الوحيد من من كتَّاب الرأى الذى تلقى سيلا من التعليقات التى انتقدت شيوع «قلة الأدب» بين الأجيال الجديدة.
إن موقف رئاسة الجمهورية كان مقدرا، سواء حين اعتذر الرئيس للسيدة التى جرى تصويرها أثناء وقوع الجريمة، وظهر الشريط على اليوتيوب، أو حين وجه الرئيس رئيس الحكومة بضرورة الاهتمام بمكافحة الظاهرة وتشكيل لجنة وزارية خاصة، لذلك الغرض.
إن الاهتمام وجه إلى الضحية التى تم تصويرها أثناء وقوع الجريمة، الأمر الذى صدم الرأى العام فى الداخل والخارج، إلا أننا لم نسمع شيئا عما جرى مع سبع أو ثمانى حالات أخرى لسيدات تعرضن للتحرش فى نفس اليوم، ولكن لم يتم تصويرهن، حيث اكتفين بإبلاغ الشرطة فقط بما جرى لهن.
لاحظنا فى الوقت ذاته أن وزارة الداخلية دخلت على الخط حيث كافأت ضابط الشرطة الذى أنقذ الفتاة، ومعه اثنان من أمناء الشرطة. لكن الضابط الشهم كان قد ذكر فى شهادته المتداولة أنه ظل يدافع عن الفتاة ويحميها من الذئاب الذين تجمعوا حولها طوال ساعة ونصف الساعة، وأن الشرطة ظهرت فى الدقائق العشر الأخيرة. كما أن الروايات المتواترة أجمعت على تقاعس الشرطة وضعف حضورها فى الميدان آنذاك. وقرأت تعليقا ذكر أن الشرطة باتت تستنفر فقط لمواجهة النشطاء السياسيين، وأن ما دون ذلك أصبح يحتل مرتبة ثانية فى الأهمية.
الملاحظة الأهم من كل ما سبق، التى دفعتنى إلى العودة لمناقشة الموضوع، أن الغضب لوقوع التحرش أو الاعتداء الجنسى يعيد فتح ملف مفهوم الشرف والعرض فى ثقافتنا. ذلك أن الاهتمام الكبير الذى يستحقه فإنه فاق بكثير غضب النخبة والمجتمع إزاء انتشار التعذيب والاعتداءات البدنية والجنسية التى يتعرض لها المعتلقون والناشطون منذ عدة أشهر (شهاداتهم مسجلة ومتاحة على الإنترنت). وتلك مقارنة تستحق وقفة نعيد فيها التفكير فى المشهد.
تحضرنى فى هذا الصدد مقولة كتبها الشيخ محمد الغزالى رحمه الله وسمعتها منه أكثر من مرة، خلاصتها أننا فى العالم العربى نقيم الدنيا ولا نقعدها إذا ما تعرض شرف المرأة للاعتداء، لكننا لا نكترث كثيرا ونتعامل ببرود مشهود مع الانتهاكات التى يتعرض لها شرف الأمة وكرامة المجتمع. وغنى عن البيان أن المقولة لا تستنكر الغيرة على شرف المرأة، ولكن مناط الاستنكار هو التضييق من مفهوم الشرف وحصره فى الاعتداء الجنسى وحده. وهو ما يؤدى إلى إخراج إذلال الناس أو إهانة المجتمع وإهدار كرامات أفراده من الأمور التى تستحق الغيرة واستنفار الهمم والضمائر.
صحيح أن العرض له مكانته الرفيعة فى ثقافة العرب وهو أمر محمود لا ريب، لكن ما يحتاج إلى مراجعة وتصويب أو تطوير هو مفهوم العرض، حيث لا يعقل أن يظل مقصورا على ما جنسى وأخلاقى، ويتجاهل ما هو إنسانى.
أدرى أن مصطلحات مثل العرض والشرف والأخلاق فضفاضة ولها فى الثقافة الغربية مفاهيم أخرى تختلف عما هو متعارف عليه عندنا، لكننى لست فى وارد مناقشة هذا الموضوع فى الوقت الراهن. وما يعنينى على وجه الدقة هو التنبيه والتنويه إلى أن ظاهرة التعذيب لا تقل فى خطورتها عن ظاهرة التحرش، وأن انتهاكات حقوق الإنسان ينبغى أن تلقى القدر من الاهتمام الذى نوليه للاعتداء على أعراض النساء. ولابد أن يدهشنا فى هذا الصدد أن المجلس القومى لحقوق الإنسان وقع فى ذلك المحظور. إذ أصدر بيانا قويا أدان فيه ظاهرة التحرش وطالب بإنزال عقوبات رادعة على المعتدين، فى حين أن موقفه من ظاهرة التعذيب يبدو ضعيفا ومتخاذلا. رغم أن شهادات التعذيب المتداولة فى مصر الآن تؤرق الضمير وتشعر المرء بالحزن والخزى. وهو ما ينبهنا إلى بُعد آخر فى القضية ينبغى أن يشمله التحليل. ذلك أن الحماس القوى لإدانة العنف الجنسى لا يرجع إلى خلل فى المفاهيم فقط وإنما له أسباب أخرى. ذلك أن البعض يشتد فى الإدانة ويتحمس لها لأن التحرش يصدر عن أفراد فى المجتمع من السهل الجرأة فى مواجهتهم. أما حين يتعلق الأمر بالتعذيب الذى يتعرض له المعتقلون فإنه يتعلق بممارسة السلطة القائمة والمؤسسة الأمنية، الأمر الذى يستدعى قدرا من التردد والحذر. ذلك أن الحماس مجانى فى الحالة الأولى فى حين أنه مكلف فى الحالة الثانية.
من العبارات الشهيرة فى السينما المصرية أنه لا شىء أهم من الشرف. وهذا صحيح شريطة أن نضم كرامة الإنسان رجلا كان أو امرأة ضمن شرفه الذى ينبغى أن يصان.