فهمي هويدي
حين يطالب عشرة آلاف شخص بالدخول إلى الاستاد عبر بوابة بعرض نصف متر، وصفها البعض بأنها أقرب إلى خرم إبرة، فذلك هو العبط بعينه، وحين يقال لنا ان وراء الهرج الذى ساد والضحايا الذين سقطوا مؤامرة لافساد زيادة الرئيس بوتين والتشويش على مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى. فإننا نصبح بإزاء نموذج نادر للاستغفال والاستعباط. أتحدث عن أصداء فاجعة مقتل أكثر من عشرين مواطنا مصريا أثناء محاولتهم مساء الأحد 8/2 الدخول إلى استاد الدفاع الجوى لمشاهدة مباراة فريقى الزمالك وإنبى. وهو ما أضاف صفحة أو صدمة جديدة إلى سجل أحزان المصريين، الذين أصبح الموت أحد العناوين الشائعة فى فضائهم. عبر عن ذلك زميلنا الفنان حلمى التونى حين رسم صورة نشرتها له جريدة التحرير أمس (الثلاثاء 10/2) ظهر فيها شاب مصرى حائر وهو يتمتم: قالوا لى لو نزلت فى مظاهرة هتموت. قلت لهم: طيب أروح ماتش كورة، قالوا لى برضه هتموت!
حين طالعت ما نشرته أغلب الصحف المصرية وتابعت بعض الحوارات التليفزيونية اختلطت لدى مشاعر الدهشة والصدمة بالحزن. إذ لم أصدق مثلا ان أى صاحب عقل ــ حتى إذا لم تكن لديه اية دراية أو خبرة ــ يمكن ان يتصور ان تلك الأعداد الغفيرة من المشجعين يمكن ان تدخل إلى الاستاد من خلال البوابة الصغيرة التى تفضى إلى ممر، أحيط بأعمدة حديدية وأسلاك شائكة. ولم يكن مقنعا ما قيل من ان إجراءات الأمن والتفتيش هى التى اقتضت ذلك، خصوصا ان للاستاد أبوابا عدة، كان يمكن الاستعانة بها فى إدخال الأعداد الكبيرة من المشجعين مع اخضاعهم لإجراءات التفتيش اللازمة.
مما قرأت وسمعت أدركت أن عملية الدخول شابها خلل فادح لا يمكن تفسيره إلا بالفشل الذريع والإهمال الجسيم الذى يكاد يرقى إلى مستوى العمد، إذا استخدمنا التعبير القانونى. إذ دلت مختلف الشهادات والقرائن على ان إجراءات تأمين المباراة التى اتخذت تقف وراء التداعيات الكارثية التى حدثت. ثمة كلام عن دور «الالتراس» فى إشاعة الفوضى على بوابات الدخول، وكلام آخر عن الغاز المسيل للدموع الذى أطلقته الشرطة بكثافة أحدثت أثرها فى اختناق البعض وذعر البعض الآخر. وحاول البعض ان يتوجه باللوم إلى الجموع وتدافع موجاتهم البشرية، خصوصا من جانب المشجعين الذين لم تكن لديهم بطاقات للدخول. مع ذلك فإننى أفرق بين الأسباب الرئيسية والعوامل المساعدة الأخرى التى كان لها تأثيرها فى المشهد، وأزعم فى هذا الصدد ان سوء التنظيم الذى استهدف تأمين المباراة كان على رأس الأسباب التى أفضت إلى وقوع الكارثة.
سيل التفاصيل التى أوردتها وسائل الإعلام المصرية كفيل بذاته باستبعاد سيناريو المؤامرة الذى حاول البعض الترويج له للخروج من المأزق وتبرئة كل العوامل الداخلية مما جرى. ولأن كل وسائل الإعلام كانت هناك، كما ان أغلب المحررين الرياضيين لم يصبهم وباء التسييس فان ما رأوه كان كافيا لاقناعهم بانه لم تكن هناك حاجة لتآمر أى جهة. لا الأمريكان ولا الإخوان ولا تركيا أو قطر ولا حماس أو حزب الله. كما ان الأمور كانت من الوضوح بحيث ما خطر ببال أحد أن يطرح سيناريو الطرف الثالث واللهو الخفى. ذلك ان سوء التنظيم الذى حدث كان كفيلا بذاته بأن يحقق لأى متآمر مراده دون ان يبذل أى جهد أو يدفع مقابلا من أى نوع.
أصداء الكارثة احتلت عناوين الصفحات الأولى من الصحف التى صدرت أمس. فجريدة «الشروق» أبرزت خبر اتهام الشرطة بالمسئولية عما جرى، «المصرى اليوم» تحدثت عن مفاجأة وضع الأمن لقفص الموت (بوابة الدخول الصغيرة) قبل المباراة بعشرين ساعة ــ «الوطن» كان عنوانها كالتالى: دفنوا الشهداء والحقيقة أيضا ــ جريدة «التحرير» طرحت السؤال الكبير: متى يحاسب السيسى وزير الداخلية؟
رغم أننا ينبغى ألا نستبق، وإنما يتعين أن ننتظر نتائج التحقيقات وخلاصة تقارير الطب الشرعى، إلا أن الحديث عن مسئولية الأمن غدا أمرا متواترا ومسلما به فى الصحف المستقلة على الأقل، وهو ما يثير عندى ثلاث ملاحظات هى:
• إن لنا خبرة لا نستطيع تجاهلها مع التحريات والتحقيقات وتقارير الطب الشرعى. وهذه الخبرة أضعفت ثقتنا فيما يصدر عن تلك الجهات. إذ اقنعتنا تجارب عدة بان ما نقدمه فى القضايا العامة يعبر فى الغالب الأعم عن وجهة نظر السلطة وحساباتها، ولا يعبر عن الحقيقة.
• إن الأجهزة الأمنية عندنا لها قرارها الاستراتيجى الذى يرفض الاعتراف بأى خطأ وخبرتها عريضة فى غسل أيديها من كل ما ينسب إليها. تؤيد ذلك تجربة السنوات الأربع الماضية التى برئت فيها الداخلية من كل ما اتهمت به، وحين أدان موقفها تقرير لجنة تقصى حقائق ثورة 25 يناير فان التقرير تم دفنه ولم يعد له ذكر فى أى جلسة من المحاكمات التى تناولت تلك المرحلة.
• إننى من المؤيدين لإقالة أو استقالة كل مسئول يقع خلل فادح أو تقصير جسيم فى دائرة اختصاصه باعتبار مسئوليته الأدبية والسياسية. إلا أن تلك قيمة ليس معمولا بها فى بلادنا للأسف. وقد قدرت موقف البعض ممن رفعوا أصواتهم أخيرا مطالبين بتحميل وزير الداخلية بالمسئولية عن الفشل الأمنى الذى ثبت فى حالات عدة. إلا أننى أتمنى أن تمارس تلك الشجاعة بحق آخرين من كبار المسئولين الذين اثبتوا فشلا مماثلا فى حماية رجالهم فى حالات أخرى. ليس عندى دفاع عن وزير الداخلية لكننى لا استسيغ الشجاعة الانتقائية التى تظهر فى مناسبة وتختفى فى مناسبات أخرى.