فهمي هويدي
كلام الجرائد المصرية حمل إلينا أكثر من بشارة هذا الأسبوع. فقد أصدر مؤتمر وزارة الأوقاف وثيقة وطنية لتجديد الخطاب الدينى ونبذ العنف، أهديت إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى من باب الأعذار وإبراء الذمة. وقبل ذلك بأيام معدودة عقد مؤتمر وزراء الإعلام العرب اجتماعا نوقشت فيه قضايا نشر التسامح والاعتدال الفكرى والتعبئة لمواجهة الإرهاب. وبإصدار الوثيقة وقبلها توصيات مؤتمر وزراء الإعلام، نكون قد عالجنا أهم مصادر الصداع والتوتر التى تعانى منها مصر والعالم العربى، وعلى من يشك فى ذلك ان يراجع نص الوثيقة وقائمة التوصيات، وسيتأكد بنفسه فى هذه الحالة ان النصوص واضحة وقاطعة فى السعى لحل الإشكال الذى استنزف طاقات الأمة بقدر ما أنه فضح الإسلام والمسلمين وأساء إليهما ايما إساءة.
أيا كان رأيك فى هذا الكلام، فالذى لاشك فيه أن الذين عصروا أذهانهم وأجهدوا أنفسهم فى المناقشات وفى محاولة تدبيج الوثيقة وصياغة التوصيات كانوا جادين فى محاولة إخراج أفصح وأوفى كلام ممكن فى الموضوع. ولست أشك فى أن الذين أعدوا الوثيقة استفادوا من تلال البيانات والأوراق وحصيلة المناقشات التى شهدتها مصر منذ بداية العام، حين أطلق الرئيس السيسى دعوته إلى التجديد والثورة الدينية فى كلمته التى وجهها إلى علماء الأزهر والمصريين فى اليوم الأول من شهر يناير الماضى. وطوال الأشهر الخمسة التالية وسرادق التجديد منصوب ومنصته مفتوحة لكل من هب ودب من المفتين والمزايدين والمتصيدين، إلى أن أقام وزير الأوقاف مهرجانه الذى انتهى بالوثيقة التى اعتبرها إسهاما فى حل الجمود الفكرى والإرهاب والتطرف.
ما فعله وزراء الإعلام العرب لم يذهب بعيدا فى منطلقاته. ذلك انهم عالجوا القضايا المعقدة المطروحة عليهم من خلال بيان أبرأوا به ذمتهم، بعدما أصبح العلاج مشكلة لغوية يستعرض فيها الكاتبون فصاحتهم ومهارتهم فى الانشاء والبيان.
حل مشكلة الجمود والتطرف والإرهاب وإشاعة التسامح والاعتدال من خلال وثيقة أو بيان يتضمن بعض التوصيات هو نموذج للتبسيط والتسطيح الذى تواجه به البيروقراطية الملفات المعقدة. إذ تعمد إلى معالجة مشكلاتها بأسلوب بيانات سد الخانة التى يراد بها التجمل وإبراء الذمة، بحيث يتوقف «الانجاز» عند حدود النشر فى الصحف والبث التليفزيونى. وفى هذه الحالة فإن جوهر المشكلات يظل كما هو لأن المهرجانات الإعلامية لا تتيح فرصة الغوص فى أعماقها أو تجرى جذورها.
لا أبالغ إذا قلت إن ما سبق كان نوعا من الثرثرة فى الموضوع، وان الكلام المهم والجاد صدر عن الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته أمام مؤتمر «دافوس» الذى عقد فى الأردن يوم ٢٢ مايو الحالى. ذلك انه أورد فقرة لم تبرزها وسائل الإعلام المصرية قال فيها ما نصه: إن الجمود الفكرى الناجم عن التطرف والغلو الدينى أو المذهبى تزداد حدته جراء اليأس والإحباط وتراجع قيم العدالة بمختلف صورها. وبالتالى فإن جهودنا للقضاء على التطرف والإرهاب لابد أن تتواكب معها مساع نحو مستقبل تملؤه الحرية والمساواة والتعددية، ويخلو من القهر والظلم والإقصاء. لكن تلك المساعى لا يمكن أن تكتمل دون أن تمضى بالتوازى معها خطط مدروسة للقضاء على الفقر تجسد الشق الآخر للحقوق الأساسية للإنسان فى منطقتنا.
هذا الكلام يفاجئنا من أكثر من زاوية. من ناحية لأنه لم يعمد إلى التعامل الإنشائى واللغوى الذى يكتفى بالتنديد بالجمود والإرهاب وإعلان البراءة منه. لكنه انطلق من تحليل اجتماعى عميق ركز على البيئة التى تنشأ فيها تلك السلبيات، بما فيها من إحباط وظلم وقهر يستلزم إحياء لقيم الحرية والعدل واحترام حقوق الإنسان.
من ناحية ثانية لأن ذلك الكلام الرصين أطلق من على منبر محفل دولى صار يؤدى دورا مهما فى السياسات العالمية. والذين استمعوا إليه كانوا نخبة متميزة أغلبهم من الأجانب، الذين لا أشك فى أنهم رحبوا به وصفقوا له، لأنه يعد أفضل ما يمكن أن يقال فى مواجهة الجمود والإرهاب والتطرف.
من ناحية ثالثة فإنه اعتبر تلك المواجهة ليست مسئولية وزارة أو جهة بذاتها وإنما هى مسئولية السياسات العامة للدول، فى التزامها الضرورى بالحرية والمساواة والتعددية والعدل الاجتماعى واحترام حقوق الإنسان، مع نبذها للقهر والظلم والاقصاء.
من ناحية رابعة فإن هذا الكلام الذى يمثل إطارا لخطة عمل ناجحة وبداية لصفحة جديدة فى نهج التعامل مع الجمود والإرهاب والتطرف لا نكاد نلمس له أثرا فى السياسة المصرية الراهنة. بل ان ما دعا إليه الرئيس أمام مستمعيه الأجانب هو ذاته موضوع الخلاف الأساسى بين الوطنيين المصريين والمستقلين وفى المقدمة منهم النشطاء الحقوقيون وبين النظام القائم. وهو ما يسوغ لى أن أقول إن غاية مرادنا الآن ان يطبق الرئيس السيسى ما دعا إليه الرئيس السيسى من فوق منبر «دافوس» بالأردن، كى لا يعد كلامه استهلاكيا وللتصدير فقط.