فهمي هويدي
حين سئلت لماذا لم أكتب عن اعتقال هشام جعفر الباحث المرموق كان ردى أننى مصدوم وأن الصدمة أعجزتنى عن الكلام. وليس اعتقال هشام هو سبب الصدمة وإنما مرجعها أننى أصبحت أيضا عاجزا عن فهم ما يحدث فى مصر. ذلك أننى كلما تصورت أن الأمور هدأت نسبيا وأن الأجهزة الأمنية استعادت توازنها وخففت من بطشها وتنكيلها بالناس، أفاجأ بممارسات وانتهاكات تبدد ذلك الوهم وتعطى انطباعا بأن شيئا لم يتغير. بل وتشكك فى احتمالات التهدئة والتحسن فى الأجواء، وتؤيد سيناريو التصعيد الذى يحرص على استمرار التوتر وإغلاق الأمل فى أى انفراج. ومن المفارقات أن الأجهزة الأمنية توجه تلك الرسالة إلى المجتمع المصرى فى توقيت متزامن مع إجراء انتخابات مجلس النواب الجديد. فيما يبدو أنه من قبيل التحدى الذى يراد به تيئيس الناس من أى إصلاح سياسى، حتى إذا كان شكليا ووهميا. فوسائل الإعلام ما برحت تتحدث عن الوفاء بالاستحقاق الديمقراطى الذى نصت عليه خارطة الطريق، وفى الوقت ذاته تتناقل مواقع التواصل الاجتماعى الدعوة إلى وقف الاختفاء القسرى الذى استشرى أخيرا وتمتلئ صفحات فيس بوك بصور المعتقلين الأبرياء الذين يجدد حبسهم كل ١٥ يوما. هذا التزامن يجعلنا بإزاء مشهد عبثى لا نعرف ما الذى نصدق فيه أو نكذب بل إننا ماعدنا نعرف بالضبط من يعطل الدستور ويفسد الحياة السياسية.
إن الذى تعرض له هشام جعفر مر به آلاف الأبرياء القابعين فى السجون منذ سنتين أو أكثر، ومنهم جرى اعتقاله قبل ذلك، أثناء فض الاعتصامات فى عام ٢٠١٣. وهؤلاء لم يسمع بهم أحد ولا يعرف أحد مصيرهم أو أماكن احتجازهم. وكنت قد قرأت تدوينة لأحد نشطاء حركة ٦ ابريل الذى جرى اعتقالهم فى الثانى من شهر أغسطس الماضى. قال فيها إنه التقى شخصا فى الزنزانة التى أودع فيها أبلغه أنه محتجز منذ عام ٢٠١٣. وسأله عن اليوم والتاريخ. وحين أبلغه صاحبنا بذلك فإن الرجل انخرط فى البكاء وجلس صامتا. وقال الناشط المدون إنه انتقل إلى مكان آخر ولم يعرف شيئا عن رفيقه فى الزنزانة سوى أنه من محافظة الشرقية واسمه عبدالمنعم محمد أو العكس، وطلب ممن قرأ رسالته أن يبلغ أهل رفيقه بأمره.
أدرى أن هشام جعفر يستحق أن يعلن كل مواطن شريف تضامنه معه. لكننى أزعم أن وضعه يظل أقل سوءا من غيره، رغم ما جرى لبيته من تحطيم وترويع. فضلا عما تعرض له شخصيا وكذلك العاملون فى المؤسسة التى يديرها. ذلك أن خبر اعتقاله ذاع وعرف مكان التحقيق معه وتضامن معه بعض المحامين، فضلا عن بعض النشطاء والمثقفين الذين عرفوه. ولست أشك أنه فى حالة معنوية ونفسية لا بأس بها. أما الآلاف الذين لم يسمع بأسمائهم أحد ولم يتضامن معهم أحد وعانى أهلوهم من الإذلال والمهانة طول الوقت فهؤلاء يعذرون إذا أصبحت معنوياتهم فى الحضيض ولم يعد أمامهم سوى الاستسلام لليأس والبؤس.
لقد اعتقل هشام جعفر يوم ٢١ أكتوبر. وفى اليوم التالى نشرت الصحف الخبر، ومازلنا نطالع أخبار التحقيقات الجارية معه. إلا أنه فى مساء اليوم ذاته كان المهندس عمر محفوظ عزام قد انتهى من تسليم مشروع مطار الغردقة الذى كان مسئولا عنه. باعتباره ممثلا لإحدى الشركات الخاصة. وحين توجه إلى المطار مع زميل له ليستقل الطائرة إلى القاهرة احتجزه اثنان من رجال الأجهزة الأمنية، وأبلغا صاحبه إنه سيلحق بالطائرة التالية. ومنذ ذلك الحين اختفى عمر ولم يعرف أحد مصيره. إلا أن أسرته فوجئت بـ«بوست» وضعه أحد المحامين على الفيس بوك قال فيه إنه صادف شخصا جاء إلى سجن العقرب اسمه عمر عزام وعلى من يعرف أهله أن يبلغهم بأمره. صدمت الأسرة وأجرت اتصالا بالمحامى الذى أبلغهم بأنه قدم إلى محكمة أمرت بحبسه مدة ١٥ يوما. ويظل عمر عزام واحدا من كثيرين من المجهولين الذين لا تعنى الصحف بنشر أخبارهم ولا يتضامن معهم أحد. ولولا الرسالة التى تلقيتها من زوجته بحكم معرفتى بالأسرة لما علمت بالأمر.
إننى أتلقى رسائل عدة تؤرق الضمير وتعذبه من أمهات وزوجات وآباء وجميعهم من الحزانى والملهوفين الذين يتمنون أن تنشر الصحف شيئا عن مظلومية ذويهم. ولدى قدر كبير من التعاطف معهم وأعذارهم إذا ما تصوروا أن النشر فى وسائل الإعلام قد يسرع بالإفراج عنهم وهوما أشك فيه، رغم اقتناعى بأن النشر قد يخفف من أحزانهم من حيث إنه يوهمهم بأنهم ليسوا منسيين وأن هناك آخرين متضامنين معهم.
إن التضامن مع من نعرف ضرب من الوفاء مقدر ومطلوب حتى وإن كان مسكونا بروح «القبيلة». لكن التضامن مع من لا نعرف يعبر عن النبل الإنسانى الذى هو أكثر نقاء وأعلى مرتبة. ذلك أنه فى هذه الحالة بمثابة دفاع عن المجتمع بأسره واحتشاد لرد الظلم واستئصال شأفته. إن شئت فقل إنه دفاع عن الوطن وليس القبيلة.
* تصويب: ذكرت أمس أن الأستاذ طارق البشرى أتم العام الأول بعد الثمانين، والصحيح أنه أتم عامه الثانى وليس الأول.