فهمي هويدي
أخيرا فهمنا شيئا من الحاصل فى ليبيا.. فالأخبار المنشورة أمس تحدثت عن حكم أصدرته المحكمة العليا بعدم دستورية انتخاب رئيس الحكومة رجل الأعمال أحمد معيتيق.
وكان ذلك خبرا جديدا لم تعرف ليبيا له مثيلا منذ أكثر من ستين عاما، على ما ذكرت التقارير الصحفية. أما المفاجأة الأخرى والخبر الأهم فهو أن الجميع قبلوا بقرار المحكمة وقرروا احترامه. وذلك تطور آخر لم يكن مألوفا فى البلد الذى دمره العقيد القذافى طوال حكمه الذى استمر 42 عاما، وتركه أنقاضا ليس فيه مؤسسة أو مرفق لم يسلم من التشوه والتخريب.
باستثناء ذلك الذى حدث فى اليومين الأخيرين، اعترف بأنه لم يكن فى مقدورى أن أطمئن إلى شىء من الأخبار المثيرة التى خرجت من ليبيا خلال الأسابيع الأخيرة. كنت أتابع حوادث القتل التى استهدفت العديد من الشخصيات العامة، لكن أحدا لم يدلنا على الفاعلين. وما إذا كانت تلك الجرائم من قبيل تصفية الحسابات بين أجنحة الثورة. إعمالا لمقولة إن الثورة تأكل أبناءها، أم هى نتيجة صراعات قبلية وجهوية، أم أنها من فعل أنصار القذافى الذين لايزالون مزروعين فى أنحاء البلاد، أم أن المسئول عنها هم عناصر الجماعات الإسلامية المتشددة ممن يدعون أنهم «أنصار الشريعة» أو القاعدة فى بلاد المغرب العربى، أم أن الفاعلين ينتمون إلى أطراف أخرى غير التى سبق ذكرها.
حتى حين ظهر فى الأفق اسم اللواء خليفة حفتر داعيا إلى إنقاذ الثورة والدفاع عن كرامة الشعب الليبى. فإن علامات الاستفهام لاحقته. ذلك أن الرجل الذى كان قائدا فاشلا فى الحرب التى شنها القذافى فى تشاد. وقد انضم بعد عودته إلى معارضيه ثم ظهر فى الولايات المتحدة الأمريكية التى أمضى فيها نحو عشرين عاما. وخلال تلك الفترة تولت المخابرات المركزية أمره وقامت بإعداده ليؤدى دورا فى الإطاحة بالعقيد القذافى. على الأقل فهذا ما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز فى عدد 28 مايو 2014. وحين قامت الثورة عاد الرجل إلى بنغازى، حيث رقى نفسه إلى رتبة لواء (كان برتبة عقيد) ونصب نفسه قائدا لمجموعة من العسكريين أطلق عليهم الجيش الوطنى الليبى. واخترع لذلك الجيش قيادة نصب نفسه على رأسها. واستفاد من علاقاته مع آخرين من العسكريين والمعارضين السياسيين فى حملته الأخيرة. وقد انضم إليه بعض معارضى الحكومة الحالية، ممن كانوا أطرافا فى الصراع الدائر بين التيارين الإسلامى والعلمانى. وقد اتهم الأولون بالتستر على الجماعات المتشددة. وتأثرا بالأجواء الحاصلة فى مصر فإن التجاذب بين الطرفين وصف بأنه حرب ضد الإرهاب، رغم أن حكومة السيد أحمد معيتيق التى حكم بعدم دستورية انتخابها أعلنت منذ تسلمها للسلطة أن التصدى للإرهاب والجماعات الضالعة فيه على رأس أولوياتها.
رغم الغموض والالتباس المحيط بالمشهد فإن القرائن التى تجمعت فى الفترة الأخيرة تشير إلى أمرين هما:
• أن التقارير التى دأب الإعلام المصرى على نشرها عن وجود كيان باسم الجيش الحر يهدد مصر من ليبيا كانت كلها أوهام واختراعات لا أصل لها ولا وجود هناك.
وهو ما نلاحظه بعد تحرك اللواء حفتر الذى لم نجد فيه أية إشارة إلى ذلك الجيش المزعوم لا عندهم ولا عندنا. صحيح أن الكلام كثير عن وجود متطرفين من جهات عدة جاءوا إلى ليبيا، ولكن أحدا لم يذكر أن لهم علاقة بالوضع فى مصر. ولكننا فهمنا أنهم من رفاق الجهاديين الذين جاءوا من أماكن عدة إلى ليبيا وتونس والجزائر بعدما نقلوا أنشطتهم إليها. وصراعاتهم مستمرة مع السلطات الأمنية فى الدول الثلاث. وكانت الصحف المصرية قد تحدثت عن معسكرات وأسماء لقياديين وتمويل قطرى وتركى لذلك الجيش الموهوم، الذى قيل إنه سيزحف على مصر من الغرب لكى يلتقى مع ميليشيات حمساوية من قطاع غزة فى الشرق وأخرى ستخترق الحدود من الجنوب قادمة من السودان، ثم تبين أن ذلك كله هراء، وأنه أقرب إلى الحرب النفسية أكثر منه إلى أى شىء آخر.
• الأمر الثانى أن التحالفات الإقليمية لها حضورها فى المشهد الليبى. فالمنابر السعودية والإماراتية منحازة إلى اللواء حفتر وتعتبره بطلا ومنقذا لليبيا، فى حين أن المنابر القطرية تعتبره انقلابيا ولا تخفى انحيازها إلى الشرعية والمؤتمر الوطنى المنتخب. وليس معروفا على وجه الدقة ما إذا كان الانحياز مقصورا على التأييد الإعلامى والسياسى، أم أن له صورا أخرى من بينها التمويل والتزويد بالسلاح.
لايزال الغموض يحيط بالكثير مما يحدث فى ليبيا، ليس فقط بسبب تضارب الأخبار القادمة من مصادر الداخل، ولكن أيضا لأن تحيزات الإعلام العربى تضاعف من شعورنا بالالتباس والحيرة.