فهمي هويدي
يعذر المواطن المصرى إذا عبر عن عدم ارتياحه إزاء القرار الذى أصدره النائب العام بحظر النشر فى جريمة قتل المناضلة شيماء الصباغ. إذ رغم احترام المقامات والقرارات، فإنه يبدو من المستغرب وغير المفهوم أن يصدر القرار بعد مضى 18 يوما من وقوع الجريمة. ولأن الموضوع أصبح شاغلا للرأى العام طوال تلك الفترة. فلم يعد سرا أن التحقيقات قطعت شوطا بعيدا، خلاله لم تنجح محاولات تلبيس التهمة للأمين العام لحزب التحالف الاشتراكى الذى تصدَّر المسيرة المتواضعة التى حاولت أن تضع أكاليل الزهور على النصب التذكارى الذى أقيم فى ميدان التحرير لثورة 25 يناير. فى الوقت ذاته تجمعت القرائن الدالة على أن الشرطة هى التى أطلقت النار عليها وقتلتها. وهو ما أكدته صور الفيديو وشهادات الشهود. إذ حين ضاقت الدائرة ولم يعد هناك مفر من البحث عن القاتل بين رجال الشرطة الذين اعترضوا طريق المظاهرة يومذاك (24 يناير). من ثم فإن التحقيق انتقل من محاولة الإجابة على السؤال من قتلها من الذين تواجدوا بالميدان، إلى البحث عن القاتل بين رجال الشرطة أنفسهم ودون غيرهم. وحين وصلنا إلى هذه النقطة فوجئنا بقرار حظر النشر الذى صدر يوم الخميس الماضى 12 فبراير. ومن المصادفات التى لا تخلو من دلالة أنه فى نفس اليوم الذى صدر فيه قرار الحظر كانت عناوين الصفحة الأولى لجريدة «الوطن» كالتالى: ١٦ ضابطا ملثما أمام النيابة.. أحدهم قتل شيماء ـ مصادر: الفيديوهات التى يظهر فيها ضابط شرطة يطلق الخرطوش تتطابق مع تقارير الطب الشرعى عن مسافة الإصابة.
لا غرابة والأمر كذلك أن يشيع الانطباع بأن ثمة علاقة بين لحظة الاقتراب من تحديد الضابط الذى قتل شيماء وبين صدور قرار حظر النشر. الأمر الذى يفتح الباب للذهاب إلى أبعد وإساءة الظن بتلك الخطوة التى تحتمل تأويلات عدة. قد يكون فى ذلك نوع من المبالغة، لكننى أسلفت أن المواطن العادى يعذر فى ذلك لسبب جوهرى هو أن الثقة فى موقف الداخلية، وفى مختلف حلقات التحرى والتحقيق والتقاضى تراجعت إلى حد كبير فى الفترة الأخيرة. بحيث إن المواطن المذكور لم يعد يطمئن إلى سلامة ونزاهة الكثير مما يصدر عن تلك الجهات. إذ لم يحدث مرة واحدة أن الداخلية اعترفت بخطأ فى قراراتها أو من جانب أحد رجالها. وفى الحالات النادرة للغاية التى لم يكن هناك مفر من نسبة الخطأ إليها، فإنها لم تعدم الوسائل التى مكنتها من تحصين قراراتها ضد الإدانة أو رجالها ضد العقاب. ولا نستطيع أن نتوجه إليها وحدها باللوم فى ذلك لأن أطرافا عدة فى مؤسسات السلطة وفى أوساط النخبة، فضلا عن وسائل الإعلام أعانتها على ذلك. وكانت النتيجة أن تحولت الداخلية إلى ذات مصونة لا تمس، جعلها تعامل باعتبارها فوق الحساب وفوق القانون.
ضاعف من أزمة الثقة أن الناس لم يعودوا بالساذجة أو الغفلة التى يفترضها القائمون على الأمر. وإذا كانت الثورة قد أطالت من رقابهم وجعلتهم يرفعون عاليا سقف الطموحات والأمنيات، فإنها أيضا أطالت من ألسنتهم وسلحتهم بجرأة وشجاعة مكنتهم من أن يرفعوا أصواتهم أيضا. فحين تقول الداخلية إنه ليس لديها معتقلون سياسيون فإن أصغر طفل بات يدرك أن ذلك مجرد تلاعب بالألفاظ، وأن مصطلح الحبس الاحتياطى الذى أصبح مفتوح الأجل هو الحيلة اللغوية والقانونية التى تم اللجوء إليها لتبرير الاعتقال السياسى. وحين تقول الداخلية إنها لم تلجأ إلى العنف إلا دفاعا عن نفسها بعدما تعرض رجالها للاعتداء، فإن ذلك يصبح مجالا للتندر تستعيد فيه تغريدات الشباب ما تردده إسرائيل عن اجتياحاتها وغاراتها على الفلسطينيين التى تستدعى فيها دائما ذريعة الدفاع عن النفس. وحين تدعى الداخلية أنها لا تطلق الخرطوش على المتظاهرين، وأنها لا تطلق سوى خراطيم المياه وقنابل الغاز، فإن مسيرة متواضعة مثل تلك التى قتلت فيها شيماء الصباغ تهدم ذلك الادعاء ولا تدع مجالا لتصديقه.
بذات القدر فإن أحدا لم يعد يقبل الزعم بأن كل نقد لممارسات الداخلية هو إهانة للشرطة، لأن الممارسات التى تصدر عن بعض رجالها تمثل الإهانة الحقيقية لها. والمشكلة أن الشرطة بدلا من أن تصحح أخطاءها وتحاسب المخطئ من رجالها لكى تبيض صفحتها وتطهر صفوفها، فإنها تؤثر التصرف بمنطق القبيلة وليس بنهج المؤسسة النظامية. ذلك أنها بالإبقاء على أخطائها وبالتستر على المخطئ من رجالها تدفع المواطن إلى إساءة الظن بكل العاملين فى ذلك القطاع. وفقدان الثقة بهم.
إن السؤال الذى ينبغى أن يطرح فى هذا السياق هو: هل الممارسات التى ندينها وننتقدها تنسب إلى سياسة الداخلية وحدها، أم أنها تعبر أيضا عن سياسة الدولة؟ لست فى موقف يسمح بأن أحدد ما ينبغى أن يحسب على الداخلية وما ينبغى أن تتحمل مسئوليته سياسة الدولة، لكن ما أعرفه أن سلطة القرار فى الدولة تستطيع أن توقف الكثير من التجاوزات والممارسات المسيئة التى تقترفها الداخلية. ليس عندى دفاع عن الداخلية بطبيعة الحال ولكننى فى كل الأحوال لا أستطيع أن أقتنع ببراءة سلطة القرار فى الدولة ومسئوليتها عن استمرار تجاوزاتها.