توقيت القاهرة المحلي 09:17:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مثقفو منتصف العصا

  مصر اليوم -

مثقفو منتصف العصا

فهمي هويدي

أزمة النخبة أعم وأوسع نطاقا مما نتصور، حتى أزعم أنها من أخطر ما ابتلينا به فى زماننا. ذلك أن المثقف إذا تخلى عن الاستماع إلى صوت ضميره وسوغ لنفسه أن يتخلى عن مسئوليته فى الجهر بكلمة الحق فإنه يخون رسالته ويفقد شرعيته.. وإذ أشرت إلى هذا المعنى أكثر من مرة فى كتابات سابقة، إلا أنه ما دفعنى إلى العودة إليه مجددا أمران. أولهما تنامى ظاهرة المثقفين الذين لجأوا إلى الإمساك بالعصى من الوسط، بحيث أصبحوا يضعون قدما فى جانب والقدم الثانية فى جانب آخر. ويطلقون جملة تحتمل التأويل ثم يفرون منها إلى ما يستبعد أى تأويل يفضى إلى الاشتباك ويخل بإطار الموالاة. حتى إن أحدهم حين غاب عن المشهد بعض الوقت، فإنه برر غيابه بادعائه أن صمته بحد ذاته كان موقفا فيه رسالة أراد توجيهها إلى من يهمه الأمر.
الأمر الثانى الذى دفعنى للعودة إلى إعادة إثارة الموضوع أننى قرأت نصا متميزا لأحد الكتاب السوريين نشرته صحيفة الحياة فى 24/12 انتقد فيه مثقفى بلاده الذين يعرفون جيدا طبيعة النظام القائم فى دمشق، ومع ذلك فإنهم وقفوا على الحياد وحرصوا على أن يقدموا أنفسهم باعتبارهم من دعاة المعارضة الناعمة، على حد تعبيره. فى نقده لهؤلاء، استشهد الكاتب، الأستاذ حازم نهار، بمسرحية الأستاذ سعد الله ونوس، التى نشرها فى عام 1993 بعنوان «منمنمات تاريخية». محور المسرحية كان تلك المواجهة التى حدثت فى عام 1400 بين الغازى التترى تيمور لنك وبين ابن خلدون القاضى والمؤرخ وعالم الاجتماع ذائع الصيت.. وما كان يمكن أن يترتب فى العصر الحالى بسبب قرار ابن خلدون ألا يدين تيمور لنك ويرفض مواجهته. تحدثت المسرحية عن زحف تيمور لنك باتجاه دمشق واجتماع الفقهاء فى المسجد الأموى لبحث الأمر، فى حين كان ابن خلدون جالسا ينتظر فى بيت قاضى القضاة. دارت المناقشة بين الفقهاء حول ما إذا كان عليهم إصدار فتوى بوجوب الجهاد ضد تيمور لنك أم استرضاؤه. وانتهوا إلى ضرورة إعلان الجهاد، الأمر الذى ترتب عليه نشوب معركة قتل فيها كثيرون.
ابن خلدون الذى لم ير أن هؤلاء الفقهاء لا يمثلون النخبة ارتأى أنه لا جدوى من الجهاد ضد قوى جارفة مثل تيمور لنك. لذلك فإنه التقى الرجل وخرج من اللقاء ليدعو وجوه دمشق إلى الاستسلام. وبذلك فإنه فصل بين الموقف وبين المعرفة، واعتبر أن المعرفة أقوى وتدوم أجلا أطول.
وبَّخ سعد الله ونوس ابن خلدون على موقفه. واعتبر تحفظه مسلكا اتسم بالحماقة، والانتهازية السياسية؛ لأنه رفض تحدى تيمور لنك بحجة معرفته المسبقة بنتائج المعركة وإدراكه لأطوار حياة الدول. وسأل الجمهور عن النتائج التى كان يمكن أن تحدث لو قرر العالم الكبير أن يتدخل، وربما غيَّر ذلك من وجه التاريخ. وفى رأى المؤلف أن ابن خلدون لم يكن مهتما بالتغيير أو بالتطور، وإنما كان مهتما بنجاته ونظرياته التى توصل إليها حول حياة الدول.
ذكر الأستاذ حازم نهار أن «منمنمات تاريخية» تطرح السؤال الكبير حول موقف المثقف من الظلم: هل يرفضه ويقاومه، أم أن عليه أن يحسب نتائج رفضه ومقاومته ويحدد موقفه فى ضوئها؟. وهو يسأل أيضا: هل أخطأ ابن خلدون عندما حافظ على حياته وتحليلاته وأعطى تيمور لنك الأمان الذى طلبه منه؟ وعقب على ذلك قائلا إن توصيفات وتحليلات ابن خلدون عاشت أمدا أطول من الأفعال العاطفية والنضالية التى قام بها المجاهدون لإيقاف الزحف التترى، لكن ذلك يدعونا إلى إعادة النظر فى سلامة موقفه وصواب نصيحته، رغم أن التاريخ نسى الذين قاتلوا وماتوا، واعتبر المتقاعس بطلا. وعلق الكاتب على ذلك قائلا: إن سعد الله ونوس ترك الخيار لمشاهدى المسرحية لكى يقرروا بأنفسهم إن كانت تلك الشخصية التاريخية قد اتخذت القرار الصحيح أم لا. لكنه لم يدع مجالا للشك ليقول إن المعرفة تقتضى مسئولية على من يحملها. وعلى المثقفين أن يتدخلوا فى الشئون العامة لمقاومة المعتدين والطغاة. فالكتابة عند ونوس سياسة بطبيعتها. ومن يقف جانبا يعين الطاغى على طغيانه. بمعنى آخر فليس هناك حياد فى الثقافة. والمثقف حين يختار الحياد فإنه يخون رسالته.
ذكر الكاتب أن وزير الدفاع يوسف العظمة السورى حين خاض معركته ضد الفرنسيين فى معركة ميسلون (عام 1920) كان يعلم أن جيشهم ثلاثة أضعاف رجاله وأنهم أفضل تسليحا، ومع ذلك فإن الرجل خاض المعركة بشرف واستشهد فيها. ورغم أنه فقد حياته إلا أنه سجل نقطة مضيئة وأحدث فرقا فى تاريخ بلاده. وأراد الأستاذ حازم بذلك أن يدق الأجراس منبها المثقفين السوريين إلى أنهم لن يستطيعوا أن يحدثوا ذلك الفرق فى تاريخ بلادهم إلا إذا أعلنوا رفضهم الصريح للاستبداد وتخلوا عن حيادهم وانتهازيتهم.
حين انتهيت من قراءة النص قلت إن الرسالة ينبغى أن تعمم على كل المثقفين العرب. علما بأن أغلبهم حين حذوا حذو ابن خلدون فى موقفه، فإنهم لم يقدموا للناس شيئا من معارفه، لذلك ظل حرصهم على التمسح فى عتبات السلاطين مقدما على رغبتهم فى التغيير أو دخول التاريخ ـ وا أسفاه.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مثقفو منتصف العصا مثقفو منتصف العصا



GMT 07:12 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

سيد... والملّا... والخاتون

GMT 07:10 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زيارة محمّد بن زايد للكويت.. حيث الزمن تغيّر

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

غلق مدرسة المستقبل

GMT 07:09 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 07:08 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 07:07 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 07:06 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 07:05 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon